مثل قطار عمر يقف بكبرياء في محطاتِ وعرباتهُ حشدا" من الألم رغم الأمل المصطفٍ بخُشُوع أَمامَ باب حياة مزدحمة بالأحداث الدراماتيكية
ولأنها على يقينِ مع السياب العظيم
(الصبى و الزمان لن يرجعا بعد
فقري يا ذكريات ونامي)
لذا كتبت منى سعيد الطاهر في كتابها جمر وندى (لئلا يداهمني النسيان وينخرني العدم، نفضت سجادة أيامي،لملمت أطرافها، ناسجة ما تهرأ منها. نفخت رماد تفصيلات خمدت جمراتها ولم تزل توخزني) ص3
إفْتَتَحَت السيرة بمشهِد الصرخات لنسوة يرددن لازمة (مظلومة مفيدة تريد واليها)
الصبية الغضة منى لم تفهم معنى الموت وهو الذي فر منه كلكامش منذ أَكْثَرَ من أَرْبَعَة الأف سنة لذا لم تستطع ان تفهم معنى ان يكون الاب مسجى ولا يستطيع ان يسكت صراخ النسوة ويقول كفى ضجيج!!
في هذه اللحظة ظهر عالم اخر لم تألفهُ، وتقف على حافته بحذر بدون الاب الحنون والعطوف...
لم تضع منى سعيد الطاهر ذاكرتها على الرف ولا تنتظر من يوقظ ذاكرتها من النوم بل مثل ماكنة تشحن الالم وتسرد الاحداث وكأنها محفورة على الخشب
في السِيْرة (جمر وندى) تعيد الكاتبة فَتَح جراحات قديمة لم تندمل وأحداث تحتاج الى أجوبة لم حصل كل هذا ؟
فالزمن كان وديعا هادئا لكنه صار انانيا وصارما وقاسيا وليس بلمستطاع للحالمين من ادراك لَمْ العالم صار لعوبا" وماكرا" ويجيد الخداع!!
تقول سيفلانا الكتيوفيش (نحن لا نرى حال هؤلاء الذين يحملون ذكريات القاسية المؤلمة معهم بل نشفق على انفسنا كذلك)
في (جمر وندى) لا يبدو الزمن وطن للإنسان حين يتحدان الزمن والوطن ضده وتغدو الايام رعب لم يكف عن إلقاء ظلاله والهدنة مع القلق مؤقتة!
شكل أعتقال الأخت الكبرى (مفيدة سعيد الطاهر) مؤشرا" واضحا"على طبيعةِ الحياة السياسية القاتمة وانسداد افقها و لا وقفة تأمل تفتح بابا" للحوار والتعايش السلمي بين حزبين
ففي ظل احتراب وصل لحد العنف كان بديهيا" ان تصاحبه ُموجةُ اعتقالات لكوادر واعضاء وانصار الحزب الشيوعي بعد مقتل الزعيم عبد الكريم قاسم و لم تسلم منها هذه الاسرة ذات الجذور اليسارية (الشيوعية تحديدا)
هذا الاعتقال لم تمّر عليه السيرة مرورا عابرا" بل شكلت صدمة كبيرة للعائلة وتركت أَثارَها على الابِ، ورعب هاجس سيطر عليه من فقدان (مفيدة) لعذريتها اثناء الاعتقال!!
(لم يكن التعذيب وحده ما أرَّق والدي ودمره، بل توهمه بفقدان عذرية شقيقتي " مفيدة" واغتصابها من قبل جلاوزة الحرس القومي لم تكن تلك السفرة للترويح قط بل انحصرت بتحقيق هدف كان في رأس أبي أذهلنا جميعا.. ) ص 13
وفي عالم تسكنه مخلوقات الغضب المتراكم وفاقدة لإنسانيتها تتوالى الاعتقالات وتتراكم الازمات وترصد الاجهزة الامنية تحركات هذه العائلة فتتنقل من الحلة الى بغداد
لكن الندى سرعان ما يجد له طريقا مخضرا" بالأزاهير
(انشغالاتي بالحزب ومتابعة دروسي أبعدتني عن التركيز في حياتي الشخصية، لم ألتفت لمن يبوح لي بإعجاب أو يصارحني بحب.. ) لكنه طرق الباب بقوة في علاقة حُبّ لم تشهد النور الا قليلا، منى وحبيبها الذي لم تذكر اسمه الصريح، يكتبا اسميهما على جذع شجرة مثلما يفعل ابطال الأفلام الرّومانسية
ومع ابتسامة من القَدَر شكلت انعطافة حادة في حياتها عندما عينت محررة في القسم الفني في جريدة الحزب الشيوعي العراقي (طريق الشعب)
وتتعرف هناك على رفيق اخر ولان قلبها مازال يملكه من اضطر للسفر خارج العراق خوفا" من الاعتقال.. فيما من الناحية الاخرى يتعلق بها سامي العتابي ويتقدم لخطبتها لكنها في ذروة التردد بين الموافقة على الخطوبة او انتظار الغائب الحاضر في القلب والذاكرة تحسم الامر ويضع سامي خاتم الخطوبة في يدها لكن حدث ما لم تتوقعه يعود الحبيب الى بغداد (كنت مستعدة لنزع خاتم خطوبتي لو لمست منه الرضى والتوافق على المضي بعلاقتنا السابقة)

السرد الذي تسير به الاحداث متنقلا بين موت الاب واعتقال مفيدة ينفتح على افق شاسع من ندى لتتم مراسيم الزواج من سامي العتابي وبزفة اطلقت عليها (زفة فنطازية) لما تخللتها من احداث لم تخطر على بال العروسين (حيث زُفّ العريس بسيارة نقل " بيك آب") (أوصلتنا السيارات حتى بوابة الطائرة في مطار المثنى) (ركبنا الطائرة حتى غفا سامي على كتفي، تضايقت وأحرجت لمشهد عريسي المتعب) (وصلنا الفندق، وإذا بنا نفاجأ بعدم الحجز، وعدم توفر أية غرفة شاغرة) وبرجاء لموظف الفندق (فما كان منه إلا أن يمد لنا فراشا على أرضية المطعم مشددا على إنه المكان الأوفر أمانا ونظافة)
ورغم صورة الندى تحضر ثم تشحب لتصبح جمرا فالخوف المبثوث في الوهاد اصبح شجرة ساقاها طويلتان
حين تعرض منى سعيد الطاهر رحلة الخوف هذه والهروب والتخفي من الاعتقال حتى تنال الاجهزة الامنية من زوجها، ويمام ابنتها في عمر الشهرين وبدسائس لا تجد للأن تبريراً لها ينال سامي حصته اليومية من التعذيب، وتبدا معها رحلة طويلة (لمنى) وسط رجاء وتوسلات ومن تضامن زميلات وزملاء من اجل معرفة مصير زوجها وتسير احداث السيرة بشكل درامي ومعها خيبات من زميلات وزملاء تطوعوا ليكونوا مخبرين ينقلون عبر تسجيلات صوتية ما يتسرب من حديث منى عن حالة اعتقال زوجها!!
وكما يقول فرويد ا (الرعب والحياة هما في صلب الدراما وليسا مصادفات او أخطاء) لكن الرعب من نوع اخر والحياة لم تعد شفافة بلون زجاجي فهي كمن تمشي في حقل الغام. احداث لا تبشر بالخير من قصة اختفاء اختها (سلوى) واتصالها بعد خمس سنوات في مصر (تشرح سلوى كيفية هروبها من العراق مستعينة بزميلها المصري محمد قنديل في مكتب السياحة الذي حصل لها على تأشيرة السفارة التركية من جواز مزور) (ص 76)
ومثل البحث عن كنز في كهف مظلم تتلمس الكاتبة منى خطواتها حتى لحظة تبدو عسيرة على الفهم ففي دائرة الامن العامة (كل من سبقني خرج دامع العينين محمر الوجه، وأنا لم أزل على تفاؤلي برؤية سامي بعد الغياب، أعلل نفسي إنها دموع الفرح لمقابلة أبنائهم ولاشك.. حتى حان دوري) لتتاكد ان سامي لم يعد على قيد الحياة تم اعدامه (اختصر ببضع كلمات شنيعة لم أصدقها: الإعدام شنقا) ص 72
تمسك بشهادة الوفاة وكأنها تمسك بجمرة فيتطاير منها دخان يتصاعد مع كل خطوة خارج مبنى الامن العام!
ومع الكثير من الخطوب بما في ذلك النجاة بشق الانفس من الاعتقال او الطرد من الوظيفة بعد وفاة سامي (صدر أمر نقلي من دار ثقافة الأطفال إلى المكتبة الوطنية.. ودعني زملائي بحزن وخوف) ص72
ومثل إلهة تراقُب كيف تتجمع العواصف، واجهت بعض سلوكيات ومواقف تتقزز لها النفس ومواقف كثيرة اخرى تحمل جمال الروح ونبل المشاعر
ومثلما تتسلق صخرة شاهقة شديدة الوعورة برفقة الضباب والسحب تحظى (منى) بفرصة للعمل في بلد خليجي وهو حلم لا ضفاف له في ظل كابوس الحصار وما خلفه من اثار صعبة على حياة العراقيين
وتسرد الكاتبة رحلة امتدت لأكثر من ثمانية عشر عاما متنقلة بين صحف ومجلات خليجية، حتى عودتها للعراق
من يعرف منى سعيد الطاهر على يقين ان في كل خطوة تزرع شجرة في اعماق الغابة والآمال طليقة كالهواء، لذا كتابها (جمر وندى) يَصْلُحُ ان يكون مسلسلا" دراميا " تتبنى انجازه شبكة الاعلام العراقية.
وأخيرا" أنقذت الاعلامية والكاتبة منى سعيد الطاهر الذكريات من الذبول واقتفت أَثَر الصور بلا ملل ولم تتنازل عن صبر المبشرين.