ونافذة على مختلف المعارف والتجارب الإنسانية

بقلم كوثر كريفي

تمنح القراءة المرء أكثر من حياة، فهي تضيف لعمره أعمارا من العلم والمعرفة والثقافة، لذلك يحرص الكثيرون على تكوين مكتبات خاصة بهم، ويقيمونها في منازلهم، فهي نافذة ووسيلة للتواصل مع العالم ومع مختلف الثقافات والتجارب الإنسانية في كل زمان ومكان.

كل كتاب في المكتبة الشخصية يعبق بذكرى معينة، لذلك فإن للمثقف مع مكتبته علاقة زمن وذاكرة، فهي زاوية حيوية في المنزل يتفاعل معها باستمرار، وليست مجرد ديكور منزلي كما يحلو للبعض النظر إليها.

وحول هذا الموضوع، قال الكاتب والشاعر حسن نجمي في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء، إن علاقته بمكتبته الشخصية هي بدون شك علاقة جوهرية بالقراءة والكتابة، معتبرا القراءة أداة للمعرفة والتواصل، وتمثل لحظة استثنائية في إيقاع الحياة اليومية.

وأضاف أن المكتبة سواء كانت شخصية أو عامة تعد فضاء حميميا لتقوية الرصيد المعرفي، وتثقيف الذات، وتنشيط الذاكرة وإثراء المتخيل، مشيرا إلى أنه عندما يكون في مكتبته الشخصية أو عندما يكون عموما في صحبة كتاب يحس بأنه يجدد العلاقة مع الذات، مع اللغة ومع الآخرين. كما يظل الانغماس في القراءة بالنسبة لنجمي محاولة متجددة للعثور على معنى جديد للأشياء وللعلائق الإنسانية، وعلى معنى أيضا للصلة بالحياة والعالم.

واعتبر نجمي أن من يكتبون وينتجون إنتاجات أدبية أوفكرية أو نقدية، لا يمكنهم ذلك حقيقة بدون قراءة مكثفة وبدون التوفر على مكتبة شخصية.

هذه القراءة لا يجب أن تقتصر حسب نجمي على ما توفره الشاشات الصغيرة وآليات القراءة الإلكترونية فقط، لأن المطلوب أن ينكب الكاتب أو المفكر أو الناقد على الكتب في صيغتها الورقية وأن يقرأها بعنف تقريبا، إذ يتعارك مع الكتاب الذي بين يديه من حيث تسطير بعض الفقرات وتدوين بعض الأفكار أو كتابة بعض الهوامش على صفحات الكتاب ذاته، وهو ما يساعده على الانتباه والملاحظة واختيار الكلمات التي يكتشفها لأول مرة أو يجدد العلاقة معها.

وأشار إلى أن القراءة على الشاشات الإلكترونية الصغيرة لا تخلو من إجهاد للعينين، في حين أن الكتاب يبقى أداة رحيمة بصاحبها من قبل ومن بعد.

وعلاقة بجائحة فيروس كوفيد-19 التي يمر منها العالم اليوم، أبرز نجمي كيف شكلت المكتبة الشخصية ملاذا خلال هذه الفترة، خصوصا خلال الأشهر الأولى من الحجر الصحي الذي تم فرضه لتجنب تفشي الفيروس.

وأوضح نجمي أن ما كان يعرفه البعض عن الجوائح والأوبئة والمجاعات كان يمنح الانطباع بأنها أحداث تقع بعيدا في قارات أخرى ولدى شعوب أخرى وربما خارج الأرض، ثم فجأة أصبح الجميع يعيش في مواجهة مباشرة مع وباء فرض أن يلزم الجميع منازلهم. ويقول إن القراءة أصبحت بالتالي - كما قالت الروائية الفرنسية آني إيرنو- "عملا يلزم الكائن لزوما كليا"، معتبرا في هذا الصدد أن المكتبة الشخصية توفر لأصحابها فضاء وإمكانيات لا يمكن العثور عليها في أمكنة أخرى.

وذكر كيف أن الجميع أصبح يبحث فجأة عن رواية "الطاعون" للكاتب الفرنسي ألبير كامو، لشعور جماعي بالحاجة إلى خبرة لم يكونوا يتوفروا عليها ولأنهم يبحثون عن ملاذ في الكتب.

وأكد أنه يمكننا قراءة تاريخ ثقافة من الثقافات من خلال المكتبات الشخصية، داعيا إلى عدم التفريط في مكتبات عدد من الكتاب والشعراء والمفكرين والكاتبات والمبدعات المغاربة ممن رحلوا وتركوا مكتباتهم الشخصية يتيمة ومعرضة للبيع الرخيص من طرف ورثة لا يقدرون الأشياء حق قدرها، ولا يأخذون بعين الاعتبار كونها تشكل روح صاحبها، وحرصه على رصيدها فتذهب مهب الرياح نتيجة تفريط سهل من أقربائه.

من جهتها، قالت الشاعرة وداد بنموسى في حديث للوكالة، إنه للحديث عن علاقتها بمكتبتها الخاصة لابد أن تستحضر العلاقة الأولى مع مكتبة والدها التي شكلت بالنسبة لها نهرا ومنهلا عذبا من القصص والروايات الأولى وعلاقتها المبكرة بالقراءة، مبرزة فضل هذه المكتبة في ربط آصرة حقيقية مع القراءة التي تشكل بالنسبة إليها ذلك السفر الغني والثري في رحلة الحياة.

وأضافت أنه منذ تلك الفترة، بدأت رغبتها القوية في أن تكون لها مكتبتها الخاصة وأن تجعل منها سباحة في أعالي بحار الأدب والفكر والفلسفة، وأن تنهل منها باقي المعارف والعلوم التي تطمح أن تمتلكها من أجل أن تصبح أدوات تشتغل بها في عملها الشعري وفي مشروعها الأدبي.

وأشارت الشاعرة وداد بنموسى إلى أنها حاولت أن تجمع مجموعة من الأسماء والعناوين المهمة جدا بالنسبة لها، والتي يجب أن تكون حاضرة في مكتبتها التي تعتبر متنوعة ومتعددة، ومن ذلك روائع الأدب الروسي والأوروبي والآسيوي، والمجاميع الشعرية التي يمكن أن ترصد من خلالها الحركة الشعرية العالمية.

من جهة أخرى، أوضحت بنموسى أنه رغم الثورة الرقمية التي يشهدها العالم اليوم، تبقى للكتاب الورقي دائما هذه المكانة والخصوصية بفضل المتعة التي يوفرها في جوار القارئ، مشيرة إلى أنها تعتمد أيضا على الكتاب الرقمي وتنهل من الأنترنيت مجموعة من العناوين التي لا تعثر على صيغتها الورقية بسهولة.

وأكدت أنه لا يمكن نكران وجود الكتاب الرقمي وحتميته، ولكن يبقى للكتاب الورقي نكهة خاصة وله هذه المجاورة العذبة والحضور القوي في المنزل والفضاءات الخاصة، مشيرة إلى أنها باعتبارها شاعرة، تطمح دائما أن يكون معها كتاب أينما حلت وارتحلت لأنه فرصة لتبقى دائما على اطلاع على تجارب أخرى في مجال الكتابة الشعرية أو في مجال الحوارات والفلسفة والفكر والنقد وغيرها من المعارف.

واعتبرت أن المعرض الدولي للنشر والكتاب الذي ينظم سنويا بمدينة الدار البيضاء، يشكل دائما فرصة لاقتناء مجموعة من العناوين التي يصعب العثور عليها في المكتبات ويكون مناسبة لجمع ما يمكن الاستفادة منه من كتب خلال السنة والاطلاع على جديد المكتبات وعلى جديد دور النشر والكتاب في كل بقاع العالم، معربة عن الأسف لكون وباء كوفيد -19 تسبب هذه السنة في غياب هذا اللقاء الذي ينتظره الكثيرون بشغف.

من جانبه، اعتبر الشاعر والإعلامي شكري البكري، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن المكتبة الشخصية حياة موازية لحياة صاحبها. وتختزن كما هائلا من المعيش اليومي والحميمي مع رفوفها وكتبها، كما أنها تختزن كما هائلا من التفاصيل التي تتحدث عن تاريخها الحميمي في هذه الحياة الموازية.

وأضاف أن " لكل رف حكاية، ولكل كتاب حكايتان: حكاية قراءته، وحكاية اقتنائه. كل كتاب يحمل تاريخ اقتنائه وضمه إلى الرفوف. وتكمن الحكاية في ذلك التاريخ بالضبط".

واستحضر البكري نموذجا لكتاب تطيب نفسه لمجالسته في مكتبته الشخصية، وهو كتاب الأمالي لأبي عالي القالي في نسخة القاهرة لعام 1926، وفوق تاريخ الطبع تاريخ اقتنائه من طرف أحدهم عام 1940، وفوقه تاريخ انتقاله إلى مكتبة أخرى عام 1944، وفوقه تاريخ اقتنائه لهذه النسخة بعد نحو ستين سنة من ذلك.

وقال شكري البكري إنه التاريخ الشخصي لهذا الكتاب الذي لا تكتمل هويته في مكتبته الشخصية دون بعض الملاحظات والعلامات التي سجلها قراؤه على الهامش، معتبرا أنه هكذا تتشكل الهوية العامة للمكتبة الشخصية. أما الكتب الإلكترونية فلا يمكنها بتاتا أن تزاحم هذا العشق الورقي وهذا المحراب الذي يسميه مكتبة.

بدوره قال الكاتب عبد المجيد سباطة، في تصريح مماثل، إن علاقة شديدة الخصوصية تربطه بمكتبته، فهي الملاذ الذي يجد فيه ذاته وخفة روحه، بعيدا عن ثقل الواقع وسطوته، هي جزء من سيرته الذاتية.

وأضاف سباطة أنه مع تزايد عدد الكتب التي تجد مستقرها فوق رفوف مكتبته، يجد نفسه مدفوعا في كل مرة إلى إعادة ترتيبها وجرد محتوياتها، بين ما قرأه، وما لم يكمل قراءته، وما ينتظر دوره، من الرواية والشعر إلى الفلسفة والفكر مرورا بالتاريخ والعلوم.

واستحضر سباطة أن بداية مكتبته الشخصية كانت على شكل رفوف فارغة في خزانة ملابسه، قبل أن يجبره تزايد عدد مشترياته من الكتب ومعه صغر مساحة غرفته، على اتخاذ القرار الحاسم، واستدعاء نجار حول خزانة الملابس بكاملها إلى مكتبة.

وأشار إلى أنه رغم كل ما يقال عن نهاية عصر الكتاب الورقي، إلا أن الوقائع الفعلية على الأرض تثبت العكس، موضحا أن الكتاب الورقي ما زال - رغم كل الإكراهات - صامدا، بل وقادرا على اجتذاب شرائح جديدة من القراء.

يقول سباطة "لا أحد ينكر وجود تلك العلاقة الساحرة الدافئة التي تربط المرء بالكتاب، ملمس الورق وربما رائحته، تتابع السطور على الصفحة وما يتولد أحيانا من رغبة في كشف ما يختبئ وراءها، وكل هذا مما لا تستطيع الكتب الإلكترونية والحواسيب اللوحية توفيره، وإن تعددت مزاياها، بين خفة الوزن وسهولة النقل".

تبقى المكتبة الشخصية إذن بالنسبة للكثير من المثقفين، مرآة للعالم وملاذا لا يمكن الاستغناء عنه حيث يبقى للكتاب الورقي متعة خاصة، فكل كتاب يحمل جزءا من العمر ويمنح مجموعة من المعارف والأفكار التي تساهم في صياغة شخصية القارئ ورؤيته للحياة.