(يتملكني حزن عميق في كل مرة أفكّر فيها بأندريه. لقد أحببناه كثيراً، ونحن جميعاً ننحني أمامـه...)
مايكل أنجلو أنطونيوني

فيلم Stalker، هو الفيلم الخامس لتاركوفسكي 1979 وآخر فيلم أخرجه في الاتحاد السوفييتي قبل مغادرته البلاد إلى غير رجعة، حيث توفي في فرنسا عام 1986بسبب السرطان عن عمر ناهز الرابعة والخمسين.
كلمة Stalker بالإنكليزية، أو Сталкер بالروسية، تعني المُطارِد أو الشخص الذي يتتّبع أو يتعقّب أو يقتفي أثر شخص ما أو شيء ما.
الفيلم مقتبس من رواية بعنوان "نُزهة على حافة الطريق" للأخوين بوريس ستروغاتسكي، (1933-2012) وأركادي ستروغاتسكي (1925-1991) وهي رواية تنتمي إلى أدب الخيال العلمي، وهذه هي المحاولة الثانية لتاركوفسكي في ولوج موضوع الخيال العلمي بعد فيلمه "سولاريس" .1972

تتحدّث الرواية عن سقوط نيزك وتحطيمه في بلد لم يُكشف عن اسمه، وزمن غير محدد، ربما في المستقبل، في إحدى القرى النائية وتدمير تلك القرية تماماً. قيل حينها أنَّ القرويين قد جذبهم الفضول لمعرفة هذا الشيء الغامض والغريب الذي هبط عليهم من السماء، فساروا نحو تلك المنطقة التي سقط فيها النيزك ودخلوها، ثم تواروا تماماً عن الأنظار.
الحكايات التي تداولها الناس فيما بعد تدور حول وجود "غرفة" داخل تلك المنطقة تسمى "الملاذ الغامض"، يومها، تلافياً للإشكالات وتأميناً لتلك المنطقة، أحاط الجيش تلك المنطقة
بأسلاك شائكة وحراسة صارمة وقيامه بدوريات عسكرية استكشافية معتبراً إياها منطقة محرّمة غير مسموح لأحد الدخول إليها.
ثمة أناس ممن لديهم خبرة بتعقّب أو معرفة طرق الدخول لتلك المنطقة المحظورة ممن يُسمّون stalkers والذين يطلقون على أنفسهم (الأدلّاء) يتم استئجارهم من قبل بعض السياح لقاء مبلغ من المال لولوج تلك المنطقة الغامضة والخطيرة بشكل سري والوصول إلى تلك الغرفة المسماة "الملاذ الغامض"، أو "غرفة تحقيق الأماني المنشودة".

تتضمن الرواية الكثير من الأحداث الاستطرادات والشخصيات والرحلات صوب المنطقة المحظورة. ما قام به تارركوفسكي هو أنه لم يبقِ من الحبكة الأصلية سوى الظلال المعتمة للمنطقة المحظورة، والمهنة غير الشرعية Stalker لبطل الرواية الذي لم يذكر اسمه. وقد اختزل الرحلات الكثيرة إلى المنطقة المحظورة برحلة واحدة قوامها ثلاثة أشخاص لا تُذكر أسمائهم أيضاً إنما مهنهم فقط، هم: Stalker، الذي لعب دوره في الفيلم الممثل (الكساندر كيدانوفسكي) والثاني، كاتب شهير، قام بأداء دوره الممثل (أناتولي سولونيتسين) والثالث، عالِم فيزيائي شهير، لعب دوره الممثل (نيكولاي غرينكو).
الأول، قدِمَ على الأرجح، بدافع القيام بنوع من المغامرة أو بحثاً عن مصدر للإلهام، والثاني جاء يبحث عن الحقيقة، كما يقول.
وهاتان الشخصيتان هما من ابتكار تاركوفسكي، على الرغم من أن مواصفاتهما مركبة من شخصيات مختلفة وعديدة في الرواية.
الدليل Stalker هو شخص مشرّد بائس وغير سعيد، خرج تواً من السجن، يعيش مع زوجته وابنته المعاقة في كوخ خرب على أطراف المنطقة المحظورة ويكسب عيشه كمرشد أو دليل من خلال تنظيم رحلات استكشافية سرية إلى المنطقة المحظورة إلى مكان يسمى "غرفة تحقيق الأمنيات"، وهو موقع وهمي، حيث تتحقق فيها الرغبات المنشودة للقادمين، متجنباً بحذر شديد الفخاخ والمصائد المتحركة التي كان قد وضعها رجال الجيش والشرطة.
على الرغم من توسلات زوجته (الممثلة أليسا فرايندليخ) ألا يواصل عمله الخطير خوفاً من أن يتم القبض عليه مرة أخرى من قبل الحراس أو ما هو أسوأ إلا أن يواصل مهنته هذه دون خوف أو تردد، لأنه لا يمكنه العيش بعيداً عن تلك المنطقة، فهي بالنسبة له بمثابة بيته، ولها تأثير عليه مثل تأثير المخدرات على المدمن. Stalker هو مزيج من مواصفات الإنسان المثالي وشيء من دون كيخوته.
لقد خبر هذه المنطقة المحظورة يوم كان يتدرَّب على يد مرشد شهير اسمه بوركوباين، الذي كان في نزهة قصيرة مع أخيه داخل تلك المنطقة وعاد بعد تلك النزهة وحيداً، وما لبث أن أصبح ثرياً بشكل غير محدود، لينتحر في الأسبوع اللاحق.!
حين يصل الثلاثة إلى تلك الغرفة في نهاية رحلة خطيرة، مفزعة، وموجعة، يتضح بجلاء أن خشيتهم وذعرهم من تجسيد طلباتهم المستجابة تلك يقودهم إلى رؤيا واكتشاف ذاتي عميقين، لأن الغرفة تلك وحدها القادرة على التقاط تقريعات الضمير والأفكار الخفيّة في أعماق الروح. لذا نرى الكاتب والعالِم لا يطلبان شيئاً ولا أية أمنية، بل يلتزمان الصمت.
ليس عبثاً أن يجر الكاتب رفاق الرحلة وهم يشّقون طريقهم الوعر عبر مسارات القطار الخاضعة للحراسة المشددة وهم يدخلون المنطقة المحظورة، إلى نزاعات فلسفية لا نهاية لها حول الإيمان بالمعجزات والفن والفلسفة الوضعية. هذه الأسئلة التي تعذبنا حين نحاول الغوص في أعماق وعينا لإيجاد سبب لأفعالنا ورغباتنا، ما نحبه وما لا نحبه.
واضح أن الوصول إلى تلك المنطقة المحظورة ليس هو العقبة الكبرى في طريق الرجال، إنما هو شكوكهم المستديمة بشأن رغباتهم الدفينة.
بمجرد وصولهم إلى عتبة الغرفة يواجه الثلاث تناقضاً غير قابل للحل. يمكنهم طلب أي شيء يريدون، لكن الغرفة لن تحقق سوى الرغبات المخفية في قاع الروح، مثلما علّق الكاتب قائلاً:
"من المستحيل التحكّم في رغباتك العميقة".

إن الهدف الذي كان ينشده الكاتب من هذه الرحلة هو البحث عن الإلهام لأنه في أزمة إبداعية بعد أن استنفد كل ما في جعبته من أفكار. في الواقع هو ليس بحاجة إلى إلهام ولا يريد كتابة أي شيء، فبمجرد وصوله إلى المكان المنشود يرفض تقديم أمنية، مدّعياً أنه لا يمكن لأحد أن يفهم أحلامه، وإن غرفة تحقيق الأمنيات لن تحقق سوى أحلام العقل الباطن. وبما أنه لا يمكن لأحد أن يستخدم الغرفة لأغراضه الخاصة، فلا معنى لهذه الرحلة أصلاً. أما العالِم، فهو من النوع الذي يكره العنف، لكنه يخترع القنابل لقتل الناس. فهو لا يتورع من نزع فتيل القنبلة لتفجير الغرفة بعد أن تخليه عن هدفه من الرحلة.
يصمت الرجال الثلاثة في غرفة تحقيق الأمنيات، لأن الرغبة التي سيتم البوح بها لن تكون صادرة منهم، إنما من العبء الثقيل الذي يحملونه في أعماقهم. بمعنى آخر، إنَّ تحقيق رغبات كهذه هو بمثابة استرجاع وتكرار لواقع غير مثالي وغير سعيد.
يرى الدليل في رفيقيّ الرحلة، الفهم الملتبس وعدم الإيمان، فهو في واقع الأمر ليس مُبشرّاً بحقائق سامية وحتمية، إنما يسعى فقط لبعث الإيمان في نفوس من يرافقوه هذه الرحلة في هذه المنطقة المحرّمة، ويؤمن أن العالَم يمكن أن يتجدّد ويتغيّر ويبتعد عن الكارثة إذا سعى الناس إلى ذلك.
في مناجاته الذاتية يصف رفيقيه في الرحلة قائلاً: "إنّ ما يسمّونه ولعاً، هو ليس طاقة روحية في واقع الأمر، بل مجرّد ملامسة بين الروح والعالم الخارجي".
فلأجل أن يتوافق الإنسان مع قوى الطبيعة ويصبح شريكاً كفؤاً لها، حسب تاركوفسكي، ينبغي أن يمتلك الإنسان الطاقة الفطرية للروح، تلك التي هي في نشاط دائم، كذلك هو بحاجة إلى سماع صوته الداخلي المتصاعد.
يكتشف الدليل في نهاية الرحلة أن رفيقيه يفتقران إلى المُثل العليا وإلى الإيمان بتحقيق السعادة، لذا يعتقد أنهما لا يحيون بطاقتهما الخاصة، إنما بطاقة أخرى افتراضية، وهذا ما يبعث في نفسه خيبة الأمل، لأنه فشل في حثهم على بعث طاقاتهم الروحية تلك، وهي مَهَّمة كان قد استلهمها من مقطع من انجيل لوقا، تتحدث عن سخرية اثنان من تلامذة المسيح عن معجزة قيام سيدهم المسيح.
المعجزة التي يطرحها تاركوفسكي في خاتمة الفيلم تتمثل في زوجة الدليل، فحين يعود الكاتب والعالم من الرحلة ليستريحا في المقهى يواجهان بظاهرة محيرة غير مفهومة بالنسبة لهما. ثمة امرأة مرت بمآسي لا توصف بسبب زوجها وأنجبت منه طفلة معوقة لكنها لا تزال تحبه بنفس التفاني الذي كرسته له في شبابها.
حبها وتفانيها هما المعجزة الأخيرة التي يمكن وضعها ضد عدم الإيمان والسخرية والفراغ الأخلاقي الذي يسمم العالم الحديث والذي يقع كل من الكاتب والعالم ضحية له.
حين سُئل تاركوفسكي عما تمثّله هذه المنطقة المحظورة. قال: "لا توجد سوى إجابة واحدة ممكنة وهي أن المنطقة ليس لها وجود. الدليل في الرحلة وحده هو من ابتكرها ليتمكن من إحضار بعض الناس غير السعداء وفرض فكرة الأمل عليهم.
من هنا يمكن تأويل المنطقة المحظورة بأنها مجاز أو وجه آخر للواقع، وما يضفي عليها هذا الغموض هو القيد نفسه، أي حقيقة أن المنطقة مصنفة على أنها لا يمكن الوصول إليها،
على أنها محظورة.
فيلم "Stalker" هو رحلة فانتازية صوب الأعماق للدنو من الروح، أما الغرفة، فهي ترميز لذلك المطهر الذي يسعى الإنسان بشوق للوصول إليه ليزيل عن الروح ما علق بها من أدران وشرور.