بعد عامين من صدور روايته الأولى "تهريب" في عام 2021، والتي جاءت بعد مجموعتين قصصيتين سابقتين، صدرت عن دار ريادة للنشر التوزيع بمدينة جدة رواية "النجاح المرّ" للروائي والقاص والناشر د نضال محمد قحطان.

تقع الرواية في 107 صفحات من القطع المتوسط، وتتكون من 16 فصلاً، ما يعني أننا أمام فصول تتكون من عدد من الصفحات التي لا يتجاوز أي منها العشر.

تبدأ بفصل "خوجلي الذي لم يعد كما كان"، وتنتهي بفصل "حصاد الغربة"، فكأنها تلخّص لقرائها رواية الحياة بكافة تجلياتها ومآزقها، فبطل الرواية "خوجلي" سوداني الجنسية، يبدأ السرد من نهاية المشوار الذي قطعه طيلة سنوات عمره، حتى وصل إلى نقطة النهاية: " في غرفة صغيرة، بشقته في حي الصفا بمدينة جدة، جلس خوجلي، يقلّب ذكريات الماضي، فها هو يتجاوز السبعين من العمر يجلس متأملاَ الجدران الفارغة، في حالة من الحزن العميق. يتذكر الماضي الجميل، عندما كان يتمتع بالصحة والقوة، ويمضي أيامه في المشي الى المدرسة وصيد الأسماك النهرية في مدينة كسلا وشاطئها المطل على النيل الأزرق والاختباء بين محاصيل القطن والذرة" ص10.

نجد أنه أنهى مشواره العملي في مدينة جدة السعودية، بعيدا جدا عن مدينته "كسلا" التي تدور فيها الفصول الأولى من الرواية، حيث طفولته وعائلته، ثم ينتقل بنا إلى مدينة الخرطوم، العاصمة السودانية، حيث درس في جامعتها: "كانت هذه المرحلة من أجمل مراحل عمري، تعرفت فيها إلى الحياة، كما زادت معرفتي في مجالات السياسة وعلوم الاجتماع، وأحببتُ الشعر، وكنتُ قد تعلقتُ بقصائد مصطفى سند الشاعر السوداني الذي أعده أبرز الشعراء العرب في القرن العشرين، فقد تميزت قصائده بالجرأة والحس الشعري العالي" ص21، وفيها انتمى خوجلي للحراك الطلابي، وأبدع في إلقاء الخطب والأشعار: "يا سودان المجد والألم/ أخضر ورمادي/ أحمر وأبيض/ يا سودان الموج والرمال/ يا بلادي الغالية يا أمي" ص22.
لكنه سرعان ما يجد نفسه وقد تخرج وبدأ في البحث عن وظيفة، تلك الوظيفة التي عجز أن يجدها في السودان بعد عمله متعاونا في صحيفة ثم في إذاعة وتلفزيون السودان، لكنه يحصل على الوظيفة المنشودة بعد عودته من الخرطوم إلى مدينته كسلا، فمن خلال العم "الماحي" العائد من الرياض؛ حصل خوجلي على توصية للعمل في صحيفة بمدينة الرياض، العاصمة السعودية: "قبل أن أكمل عامي الأول متسكعاً في كسلا التقيتُ بصديق لأخي الكبير، كان قد جاوز الستين، يناديه الجميع بالعم الماحي، كان قد عاد لتوه من الرياض، بعد عمله لسنوات ساعياً في إحدى الصحف في العاصمة السعودية، حين تحدثتُ معه وسمع قصتي طلب مني أن أرسل أوراقي عبر البريد إلى صديق سعودي له يعمل في تلك الصحيفة، وأملاني رسالة كتبتها وأرفقتها مع أوراقي ثم أرسلتها وأن أدعو الله أن أجد عملاً، على الأقل في المجال الذي أحب العمل فيه" ص27، لكنها الفرصة التي تبخرت بسبب تعنت رئيس التحرير الذي عمل معه: "كانت تجربتي الصحفية في العاصمة السعودية مليئة بالتحديات والصعوبات، ومن بين هذه التحديات كان رئيس التحرير الدكتور الذي كان متعجرفًا، ما جعل من الصعوبة التعامل معه رغم ثقافته العالية وشهادته العملية الرفيعة" ص36، فعاد إلى السودان، وهو الذي كان قد تزوج قبل أن يغادرها من ابنة العم ماحي.

يرصد نضال قحطان محطات عديدة بعد عودة بطل روايته إلى مدينة كسلا، ثم يقف بنت طويلا أمام مرارة الفقر والحاجة، وخصوصا حين يشعر بها المواطن في بلده: "بعد أن طردتني زوجتي من منزلي، ذهبتُ إلى العم الماحي، الذي حاول أن يواسيني في البداية، لكنه بتجربة الرجل الخبير قال لي: الرجل بلا عمل لا يساوي شيئاً. المشكلة ليست في إنصاف، ولا في إخوتك، ولا حتى فيك. إنها مشكلة جيل بأكمله، ووطن من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه، حين لا يساعدك على أن تجد عملاً لائقاً يبعد عنك مرارة الفقر" ص46، حتى ضاقت الحياة بخوجلي، فاشتغل بالتهريب: " كان لابد أن أخرج من هذا المأزق بأي شكل من الأشكال وأن أعود خوجلي وأن أجلب البركة لنفسي مرة أخرى. فلم أجد إلا العمل مع ميرغني، الصديق الذي تعرفتُ عليه حديثاً في مجالس الأصدقاء لاحتساء المريسة: الأمر بسيط، نحن نقوم بتهريب البضائع من كسلا إلى أريتريا، والعكس" ص49، ثم تتقاذفه الأقدار حتى يصل إلى مدينة جدة، ويعمل في إحدى صحفها: "بعد نصف ساعة، قطع حبل الأفكار التي استرسلتُ فيها صوت فتح الباب من قبل الأستاذ مصطفى، الذي قال لي بعد أن جلس إلى مكتبه: تحدثت مع رئيس التحرير وشاهد عملك ويعرفك هو أيضاً وأعجب بصياغتك للصفحة، وقرر أن يتم تعينك معنا، ستدوام في الغد من التاسعة صباحاً" ص60، ثم ترصد الرواية كيف يتحول الإنسان إلى مجرد آلة في سبيل الوصول إلى النجاح، في أن لا يمد يده ثانية للآخرين، وفي أن يحلم بحياة مستقلة، وهذا ما حققه خوجلي ولكن على حساب صحته وحياته وعلاقاته والعيش في وطنه: " تمكن مني المرض ومنحت إجازة مرضية لمدة ثلاثة أشهر وصرت امشي بعكاز اتكئ عليه، خفت أن أفقد وظيفتي في الصحيفة ودوامت بعد انتهاء الاجازة فوراً، كنت قد اقتربت من الستين رسمياً إلا أنني كنت أكبر من التاريخ الرسمي بخمسة سنواتٍ على الأقل" ص95، ليصل بنا قحطان إلى خلاصة هذه التجربة في الفصل الأخير من روايته: "أنا من وقع في فخ الحياة .. نعم، الحياة مجرد فخ، وحتى الوجود نفسه مجرد فخ أيضاً. إذا كانتْ الحياة ليست أكثر من تجربة قصيرة تنتهي بالموت وأنه لا يوجد هدف أو معنى للحياة، فلماذا على المرء أن يمر بكل هذه المرارة، وأن يعاني كل هذا الاغتراب؟!" ص102.

إن رواية "النجاح المرّ" لنضال قحطان تضعنا أمام احتمالات الحياة، المفتوحة على كل شيء، الواعدة بكل شيء؛ النجاح والفشل، النجاة والسقوط، وهي احتمالات قد لا تكون مبررة: "إن كنت على يقين من شروق الشمس كل يوم فلا بد من إدراك أن للحياة وسائلها المتعددة للهبوط بك في المآزق بغض النظر عن المبررات التي قد لا تفهمها في أحيان كثيرة. الأشخاص والظروف الصعبة جزء لا يتجزأ من الوجود البشري. لهذا السبب يتبنى الكثير من الناس فكرة أن الحياة يكمن سر العيش فيها إلى أن أحد مسلماتها أنها صعبة، وغير مفهومة أحيانا" ص44.

وهي بهذا رواية تستحق القراءة، وتنضم إلى مسيرة سردية للدكتور نضال قحطان، من خلالها يضع يده على مشكلات الإنسان العربي في هذا الزمن، مشكلاته مع وطنه، ومع محيطه، ومع مستقبله الذي لا يمكن التنبؤ به؛ فهو مجرد باب يطل على احتمالات لا حصر لها.