أحدثت الديمقراطية تحولاً في الفكر الإنساني السياسي منذ نشوئها وتطورها في الفكر السياسي الغربي كصيغة للحكم ناظمة لعلاقات تداول السلطة تتقوم بآلياتها الانتخابية وتشريعاتها الدستورية وملخصها في عبارة حكم الشعب بنفسه، وإن اختلفت وتناقضت وسائل الحكم. ومن ثَّم تعميمها كونياً كآخر نهج سياسي سلمي في الحكم وتداول السلطة تستتبعها، مسارات سياسية في تداول السلطة وقوة تشريعية في تمثيل برلماني مُنتخب، وقبل ذلك فضاء حرية على أسس علمانية داخل منظومة الدولة التي يسودها القانون والفصل بين السلطات. واستمدت شرعيتها من استدامتها الراسِّخة في البلدان التي توصف بالديمقراطيات الصناعية، ونسخ منها أخرى في عالم ثالثي ومتأرجحة في بلدان أخرى خارج فضائها الجغرافي الغربي ومركزيته العالمية.

وتكاد الديمقراطية من بين الكلمات التي حافظت على جذرها اللغوي الإغريقي مُترِّحلة عبر كل اللغات المكتوبة بمسماها الأصل، كما لو كانت عصية على التحوير اللغوي، مثلها مثل كثيرٍ من العلوم والمصطلحات اليونانية واللاتينية القديمة كالفلسفة، وغيرها مما توطن لغات العالم. وقامت من أجلها ثورات وأسقطت حكومات وشنت باسمها غزوات ضد بلدان وشعوب. وظلت شعاراً تتردد أصداءه على مدى زمني ومكاني من أثينا اليونان ما قبل التاريخ إلى خرطوم السودان في القرن الحادي والعشرين.

إقرأ أيضاً: هل يمكن للذكاء الاصطناعي توقع الموت... حقاً؟

انبثقت النظرية الديمقراطية من طور الإطار الفلسفي إلى فضاء التطبيق متطورة عن فلسفة سياسية تعود خصائصها الفلسفية إلى رؤية الفيلسوف الإغريقي أرسطو السياسية. واستمر الجدل التاريخي أو السياسي حول مدى ملاءمتها وقابلية تطبيقها على مختلف الشعوب، كما لو أن التطور البشري قد يسير في منحى مستقيم خلافاً للوجهة التاريخية السائدة. فإذا لم يكن مسار التاريخ البشري من منظور هيغلي إلى تطور، إلا أن تفاوت هذا التطور وضع النظرية الديمقراطية أمام بحث فلسفي بين قيمها والوسائل إلى تطبيقيها أو تحقيقها.

والديمقراطية من حيث النظرية والتطبيق الإجرائي كان لا بد أن تتصادم مع سلطوية النظم والثقافات السياسية لشعوب أخرى حديثة عهد بالدولة القومية. وتقوم الديمقراطية على نظرية وتستأنف أديباتها السياسية والفلسفية على مفهوم أشمل وقاعدة مبسطة من إعادة تعريف نظام الحكم على أساس الاختيار الشعبي في تضاد لفكرة نخبوية خالصة كاحتكار للسلطة ديكتاتورية عسكرية على نهج نظم الجمهوريات العربية. وبمرور الوقت أصبحت الديمقراطية نظرية طاغيِّة لا يكاد يفلت من وصفتها السحرية نظام مهما كانت طبيعة ممارسته للسلطة عسكرياً أو ديمقراطيات غير ممثلة برلمانياً ولكنها تلحق بنفسها صفة الديمقراطية.

إقرأ أيضاً: جدلية النص السردي والفكر الصوفي

وإذا كانت الديمقراطية بتعبير السياسي البريطاني ونستون تشرشل هي أسوأ أشكال الحكم باستثناء كل الأشكال الأخرى التي تم تجربتها، فقد طالها النقد كغيرها من التجارب البشرية، وخصوصاً الديمقراطية الليبرالية التي تعني بالضرورة تجذير الأسس الليبرالية الرأسمالية، مما يعني تطبيقاً شاملاً في النظم الدستورية للدولة وتشريعاتها للدولة. ومؤخراً طفقت كتابات في الغرب توصلت إلى أزمة تواجهها الديمقراطية في مسارها التكراري وقصورها في الاستجابة لتطلعات الطبقات الدنيا التي لا توصلها العلميات الديمقراطية (انتخابات) إلى الوصول إلى عبر حملات ممولة ولوبيات لها أجندتها وهيمنة الأغلبية في القرار، كما حذر منها توكفيل في الديمقراطية الأميركية في مؤلفه الديمقراطية في أميركا. فمن موجة الدمقرطة Democratization التي اجتاحت العالم في نهايات القرن الماضي، إلى أزمة الديمقراطية الأخلاقية لدى نيغل بيغر، إلى أنقاض الليبرالية الجديدة وصعود سياسيات المضادة للديمقراطية لوندي براون، وجميعها تكشف نظرياً عن التحديات التي تواجه الديمقراطية في منابعها (الغرب) أمام موجة الشعبوية وتصاعد اليمين المتطرف مما يضع الديمقراطية أمام خطر داهم.

وبعد انهيار المنظومة الاشتراكية في مطلع التسعينيات وتوابعها من دول المنظومة الاشتراكية في أوربا الشرقية وتحولها بالتالي إلى اقتصاد السوق والديمقراطية الليبرالية؛ تحمس العالم بانتصار الديمقراطية على منظومة الكتلة الشرقية، وبالتالي تسيِّد النظم الليبيرالية الديمقراطية العالم. هذا التحول (الديمقراطي) المفاجئ في مسار التاريخ السياسي للدول وَّلد قناعة لدى الغرب الليبرالي بانتصار نموذجه الدائم على ما عداه من نظم حاولت أن تكوَّن صيغة عالمية وحيدة القطب من فاشية هتلر إلى الشيوعية المنظومة الاشتراكية، وانتهى الأمر أن يعد نهاية التاريخ كما بشر به فوكوياما وليخرج الصراع الثقافي بين الحضارات بديلاً عن المواجهة على أسس المصالح الاقتصادية أو الجيوبولتيكية ليكون صراع "صدام الحضارات".

إقرأ أيضاً: غاندي والفلسفة المناهضة للعنف

وبالنتيجة، فإنَّ رهانات العالم الغربي تتركز على سيادة الديمقراطية النظام الأوحد. فدول كالصين وروسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا رأت في الديمقراطية الليبرالية وخصائصها الثقافية والقانونية التي أنتجت حقوق الإنسان وسيادة القانون وحرية الملكية وغيرها من نزعات فردية لا تمثل أو تعكس إرثها الثقافي بما يصادم توجهاتها السياسية، ولو كانت دولة مثل الهند تمثل أكبر الديمقراطيات في العالم كقوة اقتصادية صاعدة. وعلى ما يبدو أن الديمقراطية رديف النظام العالمي في صراع الكتل السياسية والاقتصادية أكثر منه صراع بين توجهات سياسية ذات إرث فكري، وتكاد أن تصبح الديمقراطية في ظل العولمة ديمقراطية عالمية.

فلسفة الديمقراطية في سياق نظريتها السياسية تقارب نظماً حاولت اتجاهات إيجاد بديلٍ موازٍ في سياق التوافق والتبرير وربما الاعتذار إلى وجود ديمقراطية في الايدولوجيات والمعتقدات المناهضة للمفاهيم ذات الجذور الغربية مثل ما قامت بعض من النظم في المرحلة الاشتراكية إذ لم تكتفِ بالاشتراكية فأضافت إليها " الديمقراطية" كعلامة تقرِّبها من الشرعية وتسوغ بالتالي ممارستها السياسية. وبالمثل في العالم العربي لم تفوت جماعات الإسلام السياسي الفرصة من اختلاق البدائل المقارنة بالمنجز البشري وجاءت الشورى كمعادل للديمقراطية الغربية، وكان من الطبيعي أن تبقى قيد البحث بين حزمة ما جرى مقابلته من مفاهيم ذات صفة إسلامية الاقتصاد الإسلامي، والنقد الإسلامي والمسرح الإسلامي وغيرها من لواحق شكلية التي لم تكن لتضيف جديداً إلى جوهر المصطلح أو المفهوم وما يتطلبه من تأسيس نظري مشروط بقيم تغيب عن أجندة تلك الجماعات.

إقرأ أيضاً: الموسيقار رخمانينوف... وَجه روسيا المُشرِق الحَزين

التداول الرائج للنظام الديمقراطي في نظم الحكم والفلسفة السياسية جعل من تعدَّد نماذج تطبيقاتها السياسية المفاهيمية والإجرائية تأخذ صفة الهيمنة المطلقة تستبد بنظريتها على ما عداها من نظريات سياسية جهدت في إيجاد بديلٍ بكل ما أسست له من تنظير محمول على قوة السلطة. ومنها ما عرف بالديمقراطيات الشعبية ذات الحزب الواحد وغيرها من محاولات لتدجين الديمقراطية ضمن أطر تنظيمية فوقية دون أن تمس بنية الديمقراطية بشكلها التقليدي. وأدخل هذا بين الديمقراطية كعملية سياسية وفلسفة في الحكم وعلاقاتها بالمحكومين في أزمة ربما احتاجت إلى مراجعة.