إيلاف من القاهرة: صدر حديثاً كتاب "البحث عن السعادة... رحلة في الفكر الصوفي وأسرار اللغة"، للكاتبة والروائية المصرية الدكتورة ريم بسيوني، أستاذة اللغويات بالجامعة الأميركية والحائزة على جوائز أدبية عديدة. يأتي هذا الكتاب في سلسلة مشروعها الأدبي التاريخي، مسنوداً إلى تجربة ممتدة في الكتابة الروائية والروايات التاريخية منها على وجه التحديد. ويعكس كتاب "البحث عن السعادة" تلك التجربة في الكتابة البحثية والتاريخية، ويطرق مجالاً شائكاً (التصوف)، وإحدى أهم محفزات الحياة (السعادة) بوصفها حالة إنسانية جوهرية في الوعي البشري متنازع عليها من حيث المعنى وطرق تحقيقها.

الكتَّابة في التصُّوف
الكتابة في التراث الصوفي الإسلامي - وهو تراث ضخم يعصى على الحصر- متجذرة في الكتابة العربية التراثية والغربية الاستشراقية بكل ما أَفاضت به اتجاهات وحركات اجتماعية وفلسفات وشخصيات مواقف تاريخية، وتعابير لغوية لم تخل من تأويلات لنصوص وأحاديث دينية تمَّس في تقاطعاتها النصية الأصول الدينية العقدية. وتكونت بالتالي بنية فكرية تاريخية ولغوية أعادت تفكيكها مسوحات أنثروبولوجية وفيلولوجية تقاطعت مع الكتابات السردية (الروائية) والمسرحية والشعرية، تمثلت شخصياتها (أبطالها) بكل آلامها وحيواتها الصاخبة. فأنتجت سرديِّات روحية مُؤَوَّلَة مادية الأرض وواقعتيها العلمانية إلى أفق السؤال الوجودي بالمعنى الميتافيزيقي في بحث عن (سعادة) وتحرر من كثافة الطغيان المادي إلى الحياة مأمولًا في تحقيقها إلى حدٍ الذوبان في أتون الحب الإلهي والألم النفسي والجسدي (المجاهدة)؛ عبر مقامات أدرجتها المدارس الصوفية كسلم للارتقاء في رحلة بلوغ الغاية المرتجاة. بل وعبرت عن رؤية كليِّة من خلال مبدأ وحدة الوجود إلا تفسيراً طرحته فلسفة التصوف بتوغلها العميق في متاهة المسار الأنطولوجي بصورة موضحة في النص والحرف والكلمة الإلهية مكونة نصاً ممزوجاً بالتجربة التأملية في ناموس الكون. فهل "البحث عن السعادة... رحلة في الفكر الصوفي وأسرار اللغة" هو قراءة إبداعية بمنظور سردي، أم دراسة حول موضوع التصوف كغيرها من الكتابات المنهجية العلمية التاريخية؛ تستقصي بمنهجٍ تاريخي وصفي لظاهرة إنسانية تحكمها شبكة سوسيولوجية واسعة الانتشار تقوم على تقاليد التنشئة التربوية توريض النفس والمجاهدة والتطهر الذاتي؟

السعادة والتصوف
كتبت ريم بسيوني في "البحث عن السعادة... رحلة في الفكر الصوفي وأسرار اللغة" عن التصوف، للدِّقة – كما أوضحت في مقدمة الكتاب- عن الفكر الصوفي وهو ما تعده أمراً مختلفًا عما تَّم تعميمه عن التصوف من طرق وجماعات هامشية وتقاليد طقسية، وأفراد ميزتهم ميولهم ونمط مسلكهم في الحياة عن الآخرين. وتلك من دلالات البحث وسياقات المنهجية في تحديد مساره العام، ولهذا جاء الكتاب بمباحثه داخل الأفكار التي أسست لهذا الفكر. وكما تقول في المقدمة إنه كتاب "يتكلم عن رحلة الإنسان في هذه الدنيا في البحث عن السعادة. والسعادة تصور سيكولوجي وبحث فلسفي أخلاقي وهدف أسمى تدفع إليها قسوة الحياة والآمها ومشقة الواقع المادي تحقيقاً لغاية قصوى تتوازى فيها المشاعر المشتركة انفعالاً Euphoria بين النفسي والجسدي. فما الجديد الذي - بعد أن كادت أن تستنفد الكتابة في التراث الصوفي - أرادت أن تقوله الكاتبة في كتابها الذي حوى موضوعات متشعبة وعناوين متعددة؟

بهذا التحديد المنهجي (الفكر الصوفي) يكون الكتاب قد اختط مساره الشَّاق في بحث عن رحلة إنسانية تزداد الرغبة في التوصل إليها داخل تصور إنساني رغبوي وهي السعادة المكتسبة من مجاهدة النفس بالمعنى الروحي في تضَّاد مع ما راج من جانبها المادي والشهواني الذي يؤثره الإنسان العادي على ما عداها من لذَّة تحققها محبة الله والتسامح وفضائل الأخلاق.

الشخصية الصوفية والسردية
هل الكتابة في التصوف هي كتابة في الترُّاث؟ وهل الكتابة حول السعادة يستدعي تناولها من باب التصوف دون الممارسات الأخلاقية الإنسانية الأخرى؟ فالرواية لا تمثل مساراً أو مداراً للتصوف أو الأفكار المجردة والمعلومات التاريخية إلا في حدود التوظيف، كالرواية التأريخية التي تناولت مؤخراً الشخصيات التأريخية والصوفية منها كروايات الروائي المصري يوسف زيدان والسعودي محمد علوان في رواية "ابن عربي الصغير". وعليه، فإنَّ النص الروائي لا يتقيد – ولا ينبغي - بالمنظور الأيديولوجي أو الفكري في رؤيته الإبداعية للحدث وإنْ ظلَّ ذلك التأثير من الصعب الفكاك منه.

يعد كتاب "البحث عن السعادة... رحلة في الفكر الصوفي وأسرار اللغة" مبحثاً ينفصل عن السرد الروائي، ولا يقترب مما يمكن تصوره كتابة سردية محضة، فقد استوعب عبر تطبيقيات بحثية منهجية التراث الصوفي بشخصياته وأحداثه وتجسديها عبر ما تجلى من تجاربها وسير أعلام الصوفية وافكارهم. تقارب السياق الروائي في البحث التاريخي عبر تقنيات الكتابة الروائية المستخدمة في البحث أخصب اللغة المستخدمة، وهي لغة تنبثق عن تجربة سردية متمكنة تجلَّت في الحديث عن الشخصيات الصوفية (أعلام) كسيرة رابعة العدوية والغزالي وابن عربي، وابن عطاء السكندري...الخ، قدمت تجاربهم على نحو سردي مشوق شكل مع التحليل المعمق نصاً يستدعي إعادة التفكير حول كثير مما أشيع عن الصوفية في المخيلة الشعبية. وأدى البحث عن السعادة إلى خلق أماكن تخيلية (يوتوبيا) صاغتها تصورات فلسفية سابقة ممزوجة بين الفلسفة والتصوف.

شخصيات التصوف والرواية
إنّ الشخصية في الكتابة الروائية والتاريخية والفكرية إذا كانت محور للبحث (عينة البحث) أو تهمين على الأحداث (البطل) في السياق السردي، لكنها تظل شخصية مستحوذة على وجودها. يتضمن هذا التفسير الشخصية بما لها من دلالة موصولة بحاضر الحدث، فلأن لاختيار الإبداعي لا يمثل - وإن يكن مقروءاً بظروف أخرى - استعادة تاريخية محضة لميثولوجيا متراكمة عن شخصيِّة لها موقع في التصور الشعبي ودور في التاريخ المتسلسل وارتباط وثيق بمأساة الحاضر، أي مرحلة الانقطاع التاريخي وثبات المفارقة للحدث. وقد يقود الاستدلال بالتأمل التاريخي في مصير الشخصية التاريخية إلى استعادة الشخصية إلى مسرح الحدث كعنصر سردي متجاوزًا الأبعاد النمطية والتعريفات السيكولوجية للشخصية Persona بفعل غياب الشخصية عن المثول والحضور معًا. فشخصيات (أعلام، أقطاب التصوف) التي أفاض البحث بالغوص عميقاً في ثناياه الفكرية والحياتية والتاريخية يكشف اهتمام ومعرفة الكاتبة بأثر الشخصية في دائرة الحدث أيًا تكن المسافة التاريخية الزمانية أو الفكرية. وبرصد بحثي ورؤية سردية تناولت أسماء أئمة التصوف: ابن عربي، الحلاج، السهروردي، ابن عطاء السكندري، عبد القادر الجيلاني، الحارث المحاسبي وغيرهم.

ويكاد الكتاب يدور بتركيز شديد على ثلاث شخصيات شكلت خطاب التصوف: أبن عربي والغزالي وإلى حد ما ابن عطاء السكندري، فأطلعنا عبر رحلة وعرة في المطلق الوجودي احتوتها مقامات وأحوال من الألم إلى الحب ثم السعادة. فلم ترد مقولات ابن عربي أو الغزالي كعبارات مستشهد بها في معرض البحث؛ فقد توسعًّت في مناقشة الأفكار في كتبهم على تعقيداتها الفكرية المبهمة من جانب ومواعينها الفكرية الواسعة. فقاربت من بين الآراء المختلفة التي تفاوتت في مستوى اختلافها حول قضايا داخل دائرة الخطاب الصوفي نفسه. فكتابات المتصوفة ومؤلفاتهم ككتاب "الفتوحات المكية" لابن عربي بوصفه كتاباً تأسيسياً في الفكر الصوفي والفلسفي الإنساني مكان خلافٍ منذ قرون أمكنها استجلاء اهم محاوره الخلافية على غزارة وتشعب ما ورد فيه.

اللغة ولغة التصوف
ينزع هذا الاتجاه اللغوي في التصوف إلى إضفاء حقائق مطلقة لا تقل أهمية عن أسراره الطقسية بما يمثله الاحتواء اللغوي بتوازٍ مع رؤية صوفية ترى في وحدة الموجودات وحدة للمصدر الخالق، بمعنى ما تكون اللغة مسكن الوجود نفسه بتعبير الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر. وأسرار اللغة لا تدخل في دراسات علم اللغُة، ولكنها اختصَّت بها العربية في أدبياتها وربما لارتباطها بالنص العربي المقدس بالقرآن الكريم (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وتطوّر هذا الاتجاه في كتب المفسرين لإبراز الجانب المعجز والمقدس. وقد شكلت اللغة إحدى مدارات التصوف وجانباً حَفَّه الغموض بما تتيحه اللغة من تأويل ومجاز ووسائل بلاغيِّة ومجالاً خصباً كجزء من تأويل العلامات الكونية الكبرى إلى علامات مستغلقة الرموز والحروف لها تقدم تفسيرًا باطنيًا تجاوز النص إلى النفس البشرية بأسرارها الغامضة. فهي لغة تختلف كما ناقشت الكاتبة كمنظومة لغوية تؤدى وفق علاقاتها وقواعدها المستقرة؛ ثمة رؤية لغوية تمكن من وراء الحرف واللفظ والدال والمدلول، ينتهي هذا الجدل إلى لغتين بين لغة الشريعة والحقيقة.

منهجية الكتابة والنقد
لم يقدم كتاب "البحث عن السعادة وأسرار اللغة" نقداً للفكر الصوفي في تجلياته الطقوسية أو أصوله العقدية في عروجه نحو آفاق سعادة مبتغاة كما جرت العادة في الكتابات الفقهيَّة، فقد استعرضت عبر موضوعات الكتاب آراء الصوفية فيما يتصل بالنفس ومجاهداتها كما عبر عنها كبار الصوفية وهو ما أكدته الكاتب بأن الكتاب "لا يتبع طريقة صوفية بعينها، وإنما يقدم الفكر الصوفي للقارئ". وجاء استعراض ومناقشة هذه الآراء والمقولات وما أؤثر عنهم عبر بحث استقصائي متخذة من المناهج البينية المتداخلة في العلوم لجمع وتحليل مادة ضخمة تطبيقاً على تيارات ومدارس وطرق فكرية وأدبية سردية تقارب التساؤل الصوفي نفسه في الوجود. كروايات نجيب محفوظ وبابلو كيلو. والنقد ما يفهم منه دائرة التقييم من رؤية قد تكون لديها تحيزاتها الفكرية أو الأيدولوجية وإلا كان نقداً فقيها له مذاهبة وطرقه التي يغلب عليه التشدد تجاه التصوف كاتجاه داخل الدين.

وبدا أن الشخصيات (أعلام الصوفية) التي تناولها الكتاب تعد أعمدة أو أقطاباً بلغتهم أفضت تجاربهم وكتاباتهم وما نُقل عنهم إلى نتاج خطاب صوفي تراثي واسع التداول في الحياة الدينية والاجتماعية وممتد زمنياً عبر مساحة جغرافية واسعة. وإذا كان التراث تصوف تطور عبر تجارب إنسانية عميقة على مستواها الفكري والإنساني وصدام مع السلطة السياسية والدينية (الفقهية) دفع ثمنه أفراد وجماعات من الصوفية. ثمة شخصيات لا يمكن تجاهلها في تاريخ التصوف ضمن السياق التاريخي والفكري. وقد أشارت إلى شخصية الحلاج خصوصاً أن الكتاب بنطاقه البحثي الواسع لم يستثنِ أياً من طبقات الصوفية المشهورين منهم والمغمورين على طوال تاريخ تراكم السردية الصوفية. فقد قاربت شخصية الحلاج في أعقد مصطلحات جدلية عرفها التصوف (الاتحاد والحلول) وكيف أن استخدامات الصوفية للغة أثار ضدهم من المحن ما وصل إلى حد تكفيرهم، ولا يزال هذا الصراع قائماً بين الصوفية ومن يعتبرون أنفسهم يمثلون صحيح الدين الذي يمثل المؤسسة الدينية الرسميِّة.

لم يكن التقارب بين النص الروائي التاريخي والمقام الصوفي في تجليات الكتابة يقود إلى تناقض أداء الكاتب، بل يوسع من مجالات إنجازاته ضمن حزمة من الإنجازات السردية والفكرية أوسع. فقد قاربت التصوف من بعدٍ إنساني بالمعنى الانطولوجي الشامل ليس كمجردات فلسفية أو صور نمطية أسست لها الكتابات العربية التي لم ترِ فيه إلا صوراً مجتمعية سلبية وحالة ردة اجتماعية وكسل ذهني يتلبس الروح الشرقية ولا يخلو من شطحات وشعوذة غير عقلانية. ويضاف أن الكتاب بكل ما حفل به من مادة علمية تاريخية ولغوية يضع تحدياً فكريا أمام الباحثين والمهتمين والدارسين مهمة إدارة حواراً علمياً حول أهم كتاب فكري تناول موضوعاً لم يزل يثير الجدل. ولا تكفي القراءات العابرة للإحاطة بالكتاب ومادته العملية الصلبة إذ يفتح آفاقاً للحوار بقدر إثارته للأسئلة.