تشتمل دراسة الطب على درس في غاية الأهمية عنوانه أخلاقيات التعامل مع المريض، بمعنى أنهم يشعرون المريض بحقيقة ما يعاني منه ونسبة الشفاء من المرض والالتزام المطلوب منه فيما يخص الدواء والغذاء وغيرها. وهذا الموضوع يحيلني لموضوعة الإعلام العربي، الذي يضع قبعة الوهم على رأس المواطن العربي في سرد الأحداث والوقائع ودمجها بما تشتهي المؤسسة الإعلامية، وليس حقائق الميدان ونتائجها.
مبادئ الحداثة الفكرية وتطور مستويات الوعي لدى المواطن العربي اصطحب معه توجهات للابتعاد عن الإعلام المؤدلج والبحث عن مصادر المعلومات من جهات ومصادر عالمية عُرفت بالحياد ونقل الأخبار والصور وخلفيات الحدث كما حدث، أي بموضوعية تامة دون ضغط فكري أو توجيه سياسي - أيديولوجي، ما يعطي لها رواجاً وتفوقاً في السوق الإعلامية على المستوى الدولي. لكن الإعلام العربي، وفي مساحاته الواسعة التي تضخ في كل ساعة مئات الأخبار والحوارات والريبورتاجات تأتي لتكرس شعارها السياسي القصدي الذي يحرك ديناميكيات عملها في تحويل الوهم إلى حقائق دامغة واتباع توصيفات تلامس الوجدان العاطفي لدى المتلقي العربي، وتبتعد عن محاكاة عقل المتلقي للمعلومة بحقائق مايحدث ووفق رؤيا تستقطب الرأي والرأي الآخر اعتماداً على حقائق الميدان.
كان الجيش الأميركي يقتحم العاصمة بغداد من أربع محاور والخامس كان جواً بإنزال استهدف مطار بغداد الدولي، وكانت الدبابات تتقدم نحو مركز بغداد، أي منطقة الباب الشرقي وفندق فلسطين ميريديان الذي تتمركز أمامه الدبابات في ساحة الفردوس، بينما وزير الإعلام العراقي يتلو بيانات معركة الأمس وكيف انهزم العدو وهو يشاهد الدبابات أمامه تدون على الأرض بيانات مغايرة تماماً!؟
الأمر ذاته يتكرر حدوثه منذ نحو ثلاثة أشهر في أحداث غزة والضفة الغربية، وانشغال محطات التلفزة العربية وفضائياتها بالحديث عن انتصارات حركتي حماس والجهاد وأعمالهما البطولية وتحطيم جيش إسرائيل واستسلامها الذي بات قريباً. إعلام يقدم رؤية مندمجة عاطفياً مع حركة حماس وتوجهاتها، ويسعى للانتصار عبر الأثير وهو مثقل بحمولة خسارة لخمسين سنة مضت، بينما لا يتم الحديث بالرؤيا والتحليل لبنية القضية الفلسطينية، ولماذا اندفعت حماس لتنفرد بعمل انتقامي هو أشبه بالانتحار الذي أخذ معه عشرات آلالاف من الضحايا وخسائر فادحة، بمعنى لم تتوفر المئات من ساعات التلفزة العربية على مشاهدة تتجاوز باتجاه قراءة واسعة لا ترتبط بيوميات الحدث وحدوده الجغرافية وحسب، بل تذهب نحو استجلاء الدوافع الخفية، وتناول حماس والجهاد بصفة محاطة بهالات من القدسية وعدم مراجعتها أو محاكمتها عن سبب مقتل وجرح نحو ثمانين ألفاً من الشعب الفلسطيني المدني الأعزل وتجريف أكثر من نصف مدن وأحياء القطاع وتهجير ما يزيد على مليون ونصف المليون فلسطيني، ومحاصرة ما يزيد على ربع مليون فلسطيني بالجوع والبرد والعيش في العراء... وتدمير كامل الحياة في قطاع غزة والمدن المحيطة بها.
باستثناءات محدودة، فإنَّ غالبية محطات ومنصات الإعلام العربي لم تجرؤ على مراجعة دور حماس وإدانتها على ما قامت به من فعل غير محسوب النتائج! وهذا الثمن الباهظ الذي كرس تدمير القضية الفلسطينية وقوتها الكامنة في القطاع من موارد بشرية ومالية وعسكرية أيضاً.
الإعلام العربي مازال يخشى منهج نقد الذات والتعامل بواقعية مع الواقع بهدف تجاوز خسائره مستقبلاً، ومع أحداث غزة صار يتعامل بطهورية تقترب من روح التقديس لحركة حماس ويتغافل عن المتراكم اليومي بجرائم القتل والموت المتصاعدة وغير اللافت للانتباه... لتكرارها! وكل من يؤشر لتقصير حماس واتهامها بالخطأ الاستراتيجي المدمر يصبح منبوذاً اجتماعياً، بل مجرد استضافة رأي طرف فلسطيني معارض أو منتقد لحماس يصبح متواطئا مع العدو وصهيونياً و...إلى آخره من الاتهامات والتوصيفات، ماجعل مناخاً من الإرهاب يحيط بأي نقد لحماس ونتائج فعلتها. واقع يجعل الإعلام مشاركاً بالصمت القاتل لجانب مهم من الحقائق ولواقع يعيشه الفلسطيني الباحث عن خيمة في آخر الهجرات!؟
التعليقات