إيلاف من الرباط: هي جغرافيا التشاؤم بالمعنى الذي لا ترقى إليه الكثير من العقول، كون خلفيته تتأسس على الأفكار العظيمة التي تعرّي كل شيء تقريباً، تكشف زيف الديموقراطية، مثلاً.

من منظور جوزيه ساراماغو، أقلّه، والذي هو مستهل هذه الرواية المنفلتة، أو الأفق الفاضح لأقنعة السياسي، من غير أن تتم بواسطته، عملية إشباع فضول ورؤى شخوص عالم المابين، ضمن حدود مثل هذه السردية، سردية التحول، وهوس المسخ.

أمجد والعجوز الضريرة دوجة، فضلاً عن السارد، لبنات بارزة جداً في هذا البناء السردي القائم على الأفكار الكبيرة، ورؤى التجديد والمغايرة. يقول الراوي: "كنت وما أزال في الرحى. مر علي الزمن ثقيلاً، واضطررت للبقاء، لم يكن عندي شيء في بلادي أسكن إليه. زمني تيبس فجأة، وصارت ساعاته حجراً، وما رويته رأيته بعيني رأسي، وسمعته، أو أخذتني في روايته الأهواء وحالات القول". (ص.8).

إنَّها نافذة للغرائبي مكيفاً، أو بالأحرى مضمّداً للزائد من جرع الحياة غير المرغوب فيها، على تراكم وعلقمية تكاليفها، كي يكابد الكائن بالتالي، كدمات ثقافة التفاؤل الزائف، حين يكون التشاؤم الواعي أداة استغناء عنه.

هنا بطل الرواية الأول، بعدّه سارداً أيضاً، وبعد أن يستقر في بلدة برلتراس، يجد في أمجد الرفيق الوفي والأنيس الصدوق، فيصعق بذبول المشهد، حدّاً ينسيه هدفه من تأمم كهذه قلعة ناهضة على أنقاض حضارة قديمة.

قواسم مشتركة
أمجد بدوره يصمت عن جرح هجران خليلته له، وهو الأب لخمس فلذات، كأن لديهما القواسم المشتركة ذاتها، والتي تدفع بهما إلى الانخراط بقوة في حياة تشاؤمية تجاور المستويات الرمزية للتحول، وتنشد الأسفار في أفلاكه.

بديهي إذن أن نستوعب منسوب هذه الغرائبية، وأن نتنفّس معاني الحلمية المدموغة بإبداع التحول، بين جناحي عالم فوضوي دموي مضطرب، تماماً مثلما يترجم ملامحه استذءاب الإخوة الأعداء، هوية الكائن بين الأدغال الدامسة، تظل مجرد هوية مشوهة، ومقامرة خلط أرقام ليس إلاّ.

هو تجلّي أنوي متشرّب لعقيدة التشاؤم الواعي: "أما أنا فلقد حملوني في الليل، وأنزلوا سروالي، وكشفوا عن ربلتي اليسرى، وامتدّت يد بمخالب إلى الدمغة الحديدية الباردة، فوضعت فوق النار حتى احمرّت وتوهّجت، ثم ألصقت بتشفّ في لحمي، أحسست بشدق يفترّ، وبجسم غير بشري يدفع الدمغة الحمراء في لحمي، ويرجعها إلى مكانها. وانطبعت أرقام أربعة على مؤخرتي، ورميت إلى الخارج. الآن أنا إنسان مدموغ في مؤخرتي، رقم، مجرد رقم، بلا اسم. من يتذكر لي اسما في برلتراس؟" (ص.12).

لعله شعور الوحدة القاتل، في عالم من الأرقام الباردة، بما ينم عن الإنكار والتجاهل والنبذ.

رجل من ذلك الزمان
قد تكون السوداوية التي ترسمها قضبان السجون، وقد يكون جحيم الحياة وخريفها الذي حوّل الكائن إلى مجرد رقم، ونكرة بين معطيات الطبيعة وفي غمرة صراع الكائنات. يقول الراوي: "لا أنا حسن الوزان، ولا الحسن البصري، ولا الحسن بن علي. أنا حي الله حسن، المعروف بالزيني، حسن بن بحارين من كفر بعيد، لا أفكر إلا في الستر. وها أنا لا يسترني شيء في أرض لا بحر فيها ولا سماء. أنا رجل من ذلك الزمان، اسمي الأصلي حسن، أما الزيني فاسم يناديني به الناس، قدر لي أن أبعث في حكاية كهذه، وها أنا أقبل بقدري، وأتم ما كتب لي. تمر الأزمنة متطاولة، ولا يتغير شيء. أهل برلتراس كما هم من بداية عهدهم، يترمدون إلى أن يتبخروا. وصبح يتنفس بملء منخريه، وهو يفرد جناحيه القويين، ويطير مسلطا عينيه على الوحش الرابض بهدوء في الأسفل". (ص.231).

إنَّها الهوية الحقيقية في استعدادها وقابليتها لتقديم جملة من التضحيات والتنازلات، طلباً للستر فقط، غير أن جل ما تحظى به، هو الباعث على الترمد، حدّ التبخر وفقدان كل شيء. فإلى أي حضيض قد تهوي مثل هذه الشخصيات المكابدة لشتى صنوف المذلة والهوان. أهي تستحق؟ كونها باعت بأبخس الأثمان، أصواتها، وبدل أن تزرع الأفق لاءات، وتتشبث بثقافة الرفض لواقع القمع وتمظهراته، تناهضه بكل ما أوتيت من قوة، فلا تذهب، بالتالي، تضحياتها هباء. أم أن هناك ما هو مقصود لسلب الكائن إنسانيته، ومسخه، وجعله مجرد تابع أعمى وأبكم وأصمّ؟

أسئلة عميقة ومحرجة من هذا القبيل، تزخر بها سياقات الرواية، وتلهج بها ألسن شخصياتها المتماهية في قواسم مشتركة عدة، تحقن شريان هذه السردية بملح التشاؤم المشروع مثلما يجسّده الوعي. التشاؤم عن وعي، لا حالة نفسية تحكمها المرَضية أو الإكلينيكية، باعتباره، أي التشاؤم، المرآة الفاضحة لنظير هذه السادية في استعباد واضطهاد الكائن وسحق هويته.

أزمات وجودية كبرى
مهما يكن فسقف الحرية يعلو ولا يُعلى عليه، لذلك يتم تدوير أسئلتها على هذا النحو، وبأسلوبية المزج بين واقع انقماع الكائن وتسلحه بثقافة التشاؤم، نكاية في رمادية المشهد. أسلوبية "كافاكية" أغدقت على السردية من طقوسيات المسخ والتحول، وفق شاكلة تليق بما تكابده مثل هذه الكائنات من أزمات وجودية كبرى، ضمن خارطة لتجاور الجنائزي والغرائبي.

والجميل في العمل، أن تجب فصول الشعر، في ذروة إقحام مخاتل، زمكانية التشخيص في استغراق سردي جواني متسارع، يستوعب موسوعية الإسقاطات.
الشعر كبلسم يذكرنا بألوان فجرعروبتنا المفقودة.

كعادته، يُفلح الروائي المتمرس نصر سامي*، في توسيع معاني الإنسانية، موقنا بأن المعجم يفترض أن يكون على مقاس الوجع، وأن يفيض بانتهاكات سياقية، استحضار الزمان والمكان والتاريخ، عبرها، يتم، في أفق خدمة المعنى المبتكر، مباهاة بالموروث، وانتشاء بعصارة ذاكراتية ملهمة.
يقول:

لمن الديار بتولع فيبوس

فبياض ريطة غير ذات أنيس

هذا البيت لعبد الله بن سلمة الغامدة، وهو يلامس جوانب من جور المكان، فتغريب روح الكائن، انتهاء.

وإذن... هي رواية انبعاث، تفرج عن تفاصيله، شقوق خلفية تشاؤمية، تفتي بفوضوية مرتِّبة، وهدم بان. حين تتملك الذات الساردة، مثل هذه النظرة التشاؤمية والتي أساسها الوعي العميق بالواقع.

هامش:
* "برلتراس"، لنصر سامي، طبعة أولى 2023، مسكلياني للنشر والتوزيع، تونس العاصمة