فهد الشثري
أؤمن كثيراً بحرية الاختيار لكل فرد في المجتمع، مع إيماني التام في الوقت نفسه بأن على الفرد أن يقبل تبعات وتكاليف خياراته الشخصية. فكما أن حلم كل فرد في المجتمع أن يمارس حقه الشخصي في اختيار ما يناسبه من تعليم وخدمات صحية وعمل واستهلاك ما يناسبه من سلع وخدمات، فعليه كذلك أن يتحمل تبعات وتكاليف هذه الخيارات الفردية. وحرية السوق جزء من تلك الخيارات التي يطالب بها الكثير من أفراد المجتمع والتي تتيح للفرد استهلاك ما يرغب فيه من السلع والخدمات لا ما يتم فرضه عليه بممارسة الاحتكار سواءً الحكومي أو الخاص للسلع والخدمات. وقد مثلت (حرية السوق) محور التوجهات الاقتصادية في العالم ككل خصوصاً مع انتهاء الحرب الباردة وهبوب رياح العولمة الاقتصادية من كل جانب، ولتكتسح بشكل كبير التيار الحمائي التجاري والتيار الكينزي المؤيد للتدخل الاقتصادي المباشر لتعديل الأسعار والأجور، والذي عاش فترة ازدهاره بعد الحرب العالمية الثانية. فحرية السوق تكفل المنافسة الحرة في جميع القطاعات الاستثمارية بما يؤدي إلى تخفيض تكلفة الاستثمار وضمان الحصول على أسعار أقل للمنتجات في السوق مع وفرة أكبر في هذه المنتجات.
هذا على الأقل ما تدلل عليه النظرية الاقتصادية وما يدلل عليه الواقع الاقتصادي المعاش وتجربة تحرير السوق قطاعات اقتصادية معينة كقطاع الاتصالات في السعودية خير برهان على ذلك. ومع ذلك فالنتائج الإيجابية المرجوة من حرية السوق تتطلب توافر عدد من العوامل كحرية الدخول والخروج إلى السوق، وعدم وجود الاحتكارات، مع وجود إطار تنظيمي وتنفيذي يكفل فرض القوانين التي تؤدي إلى حماية المنافسة. أي أن حرية السوق كمفهوم تفقد قيمتها الحقيقية عندما تفتقد أحد شروطها الأساسية، والتي تأتي عن طريق تقييد الدخول إلى السوق أو عرقلة آليته بالتحكم إما في حجم المعروض أو الأسعار في السوق أو من خلال توافر المعلومات بشكل تفضيلي للبعض مما يمنحهم ميزة تنافسية على الغير. وذلك قد يحدث بعدة طرق من ضمنها السياسات الحكومية المقيدة لحرية السوق أو عن طريق السيطرة على السوق والتمتع بوضع احتكاري فيه من قبل أحد المنتجين.
والغلاء الذي تشهده السعودية ودول الخليج حالياً يطرح على الطاولة الكثير من الحلول لمعالجته، ومن ضمن هذه الحلول عملية التحكم في الأسعار. ويجمع الاقتصاديون على أن عملية التحكم في الأسعار هي أسوأ ما يمكن التفكير فيه من حلول لمسألة ارتفاع الأسعار. فهي تمثل تشويهاً لآلية السوق الحرة للحصول على نتائج قصيرة الأجل وفي الوقت نفسه التضحية بالأهداف بعيدة الأجل التي تتمثل في تحقيق الكفاءة الإنتاجية للاقتصاد. فتحديد سعر منتج ما سينتج عنه بالتأكيد فائض طلب في السوق على هذا المنتج مما سيؤدي في النهاية إلى وجود سوق سوداء لهذا المنتج في سبيل تغطية فائض الطلب هذا. أي أن ذلك سيؤدي إلى أن الكثيرين ممن يرغبون في الحصول على السلعة أو الخدمة لن يكونوا قادرين على الحصول عليها إلا من خلال اللجوء إلى تلك السوق والتي قد يكون السعر فيها مبالغاً فيه بدرجة تفوق السعر الذي توفره السوق الحرة. وهذا سيؤدي إلى آثار سلبية تتجاوز الجانب الاقتصادي إلى الجانب الاجتماعي من حيث اضطرار الناس إلى مخالفة الأنظمة والقوانين في سبيل الحصول على الخدمة أو السلعة المطلوبة.
إذاً كيف يمكن معالجة هذا الغلاء؟ الجواب عن ذلك يأتي من خلال معرفة أن السعر و كمية الإنتاج (المعروض) نتيجتان وليسا سببين لمشكلة الغلاء، وإذا أردنا معالجة المشكلة فيجب التعامل مع المرض نفسه وليس مع أعراضه. فما ارتفاع الأسعار أو نقص الكميات المعروضة من سلعة ما إلا أعراض لمشكلات في هيكلية أسواق المنطقة والعلاج لهذه المشكلة يأتي من خلال معالجة هذه المشكلات الهيكلية. ومن أمثلة المشكلات الهيكلية للسوق في السعودية ما يعانيه قطاع الإسكان في السعودية من ارتفاع في الأسعار لم ينتج من نقص المعروض من الأراضي ولكن بوجود قوى تتمتع بوضع مالي قوي يجعلها تتحكم في السوق على المديين الطويل والقصير على حد سواء. فالأراضي البور لم تعد كما عهدناها سابقاً خارج المدن بل أصبحت داخلها، وإلقاء نظرة من الجو على مدينة الرياض أو من خلال خدمة جوجل إيرث يعطي تصوراً عن مساحات الأراضي غير المستغلة داخل مدينة الرياض. إذاً المشكلة الأساسية تكمن في كسر هذه الاحتكارات والقيام بعملية إصلاح شامل لهيكلية الأسواق لضمان تدفق السلع والخدمات في الأسعار التي تعكس التوازن بين رغبات الأفراد الفعلية واستعداد المنتجين، وضمان ألا نضع مصائر 22 مليون مواطن في أيدي فئة من الناس لا تتجاوز الآلاف.