د. عبدالعظيم محمود حنفي

ما مستوى الإنفاق العام المرغوب فيه لبلد نام عند مستوى معين من الدخل القومي؟ هل يجب ان تنفق الحكومة عشر الدخل القومي؟ أم ثلثه؟ أم نصفه؟ فقط عند الإجابة عن هذا السؤال يمكن معرفة الإجابة عن السؤال التالي حول المستوى الامثل للإيرادات الضريبية، فتحديد مستوى الضريبة الامثل يعادل من حيث المفهوم تحديد المستوى الامثل للإنفاق الحكومي. ومما يؤسف له ان الذخيرة الضخمة من الكتابات المتخصصة حول نظرية الضريبة المثلى لا تقدم سوى النذر اليسير من الإرشاد العملي حول كيفية تحقيق التكامل بين المستوى الامثل للإيرادات الضريبية والمستوى الامثل للإنفاق الحكومي.

ومع ذلك، فهناك منهج بديل قائم على أساس احصائي لتقييم مدى ملاءمة مستوى الضريبة الكلي في اي بلد نام، وهو يعتمد على عقد مقارنة بين مستوى الضريبة في البلد المعني ومتوسط العبء الضريبي في مجموعة ممثلة للبلدان النامية والصناعية. مع مراعاة بعض أوجه الشبه والاختلاف القائمة بين هذه البلدان. ولا تشير هذه المقارنة إلا الى ما اذا كان مستوى الضريبة في البلد محل البحث أعلى من المستوى المتوسط أو الأدنى منه، وذلك بالنسبة الى البلدان الاخرى ومع مراعاة الخصائص المختلفة. ولكن هذا المنهج الاحصائي لايقوم على اساس نظري ولا يحدد مستوى الضريبة ldquo;الأمثلrdquo; لأي بلد من البلدان. وتوضح احدث البيانات الاحصائية ان مستوى الضريبة في البلدان الصناعية الكبرى (الاعضاء في منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي) يصل الى حوالي ضعف المستوى المناظر في العينة الممثلة للبلدان النامية (38% من اجمالي الناتج المحلي في مقابل 18%).

وتتولد عن التنمية الاقتصادية في كثير من الاحيان احتياجات اضافية للإيرادات الضريبية حتى يتسنى تمويل الزيادة في الانفاق العام. ولكنها تؤدي في الوقت ذاته الى زيادة قدرة البلدان على تعبئة الايردات لمواجهة هذه الاحتياجات. ولكن الأهم من مستوى الضريبة في حد ذاته هو كيفية استخدام الايرادات. فنظرا لتعقد العملية التنموية، يصبح من المشكوك فيه ان يتأتى التوصل الى مفهوم مقبول لمستوى الضريبة الامثل في اي بلد من البلدان بحيث يكون هذا المستوى وثيق الارتباط بمراحل التنمية الاقتصادية المختلفة. ويقودنا الحديث عن تكوين الايرادات الضريبية الى عالم من النظريات المتضاربة. فالقضايا المطروحة في هذا الصدد تتعلق بفرض الضرائب على الدخل مقارنة بفرضها على الاستهلاك وقلة الاستهلاك، وفرض الضرائب على الواردات مقارنة بفرضها على الاستهلاك المحلي. وتعد الكفاءة (أي ما إذا كانت الضريبة تعزز التحسن المعيشي الكلي للخاضعين لها او تعمل على اضعافه) والعدالة (اي ما اذا كانت الضريبة عادلة مع الجميع من دون تمييز) عاملين محوريين في التحليل.

فهناك الاعتقاد التقليدي بأن فرض الضرائب على الدخل يستتبع تكلفة على اوضاع التحسن المعيشي (الكفاءة) اعلى مما يستتبعه فرض الضرائب على الاستهلاك، وهو اعتقاد يستند جزئيا الى كون ضريبة الدخل، التي تجمع بين عناصر ضريبة العمل وضريبة رأس المال، تحد من قدرة الممول الضريبي على الادخار. ولكن هذا الاعتقاد اصبح موضعا للتشكك نظرا لأهمية دور الفترة الزمنية المخطط لها من جانب الممول الضريبي وتكلفة تراكم رأس المال المادي والبشري. وخلاصة هذه الاعتبارات النظرية ان التكاليف النسبية لهاتين الضريبتين (الدخل والاستهلاك)على اوضاع التحسن المعيشي هي تكاليف غير مؤكدة.

وهناك شاغل آخر في ما يتعلق بالاختيار بين فرض الضرائب على الدخل وفرضها على الاستهلاك، وهو تأثيرهما النسبي في قضايا العدالة. ودرج الاعتقاد بأن ضرائب الاستهلاك تنازلية بطبيعتها (اي انها اشد على الفقراء منها على الاثرياء) اكثر مما هو الحال بالنسبة لضرائب الدخل. وشكك البعض في صحة هذا الاعتقاد ايضا، حيث توحي الاعتبارات النظرية والعملية ان قضايا العدالة التي يثيرها الشكل التقليدي لفرض الضرائب على الاستهلاك ربما تنطوي على مبالغة وان محاولات معالجة هذه القضايا في البلدان النامية عن طريق مبادرات مثل ضرائب الاستهلاك المتدرجة سوف تنقصها الفعالية كما ستكون غير عملية من الناحية الادارية.

وفي ما يتعلق بالضرائب على الواردات يؤدي خفضها الى زيادة المنافسة من الشركات الاجنبية. وبينما يعتبر تقليص حماية الصناعات المحلية من هذه المنافسة الاجنبية احدى النتائج الحتمية لبرامج تحرير التجارة، او حتى الهدف الذي تسعى هذه البرامج لتحقيقه، فان تخفيض ايرادات الموازنة ستكون احدى نتائجه الفرعية غير المرغوبة. وفي معظم الاحيان، تنطوي التدابير الممكنة لتعويض الإيرادات في مثل هذه الظروف على زيادة ضرائب الاستهلاك المحلي. ونادرا ما تعتبر زيادة ضرائب الدخل خيارا قابلا للتطبيق من زاوية السياسات (نتيجة لتأثيرها السلبي المتصور في الاستثمار) والإدارة (لأن الإيرادات المتحصلة منها لا تكون مؤكدة أو ملائمة في توقيتها مثل الإيرادات التي تتحقق من إدخال تغييرات على ضرائب الاستهلاك).

وتوضح البيانات المستمدة من البلدان الصناعية والنامية ان نسبة ضرائب الدخل الى ضرائب الاستهلاك في البلدان الصناعية ظلت بصفة مستمرة اكثر من ضعف النسبة المناظرة في البلدان النامية. (أي أن البلدان الصناعية، مقارنة بالبلدان النامية، تحصل من ضريبة الدخل ما يعادل ضعف الإيرادات التي تحصلها من ضريبة الاستهلاك على أساس تناسبي). وتكشف البيانات اختلافا ملحوظا أيضا في نسبة الضريبة على دخل الشركات الى الضريبة على الدخل الشخصي. فالبلدان الصناعية تحصل من ضريبة الدخل الشخصي ما يعادل أربعة اضعاف ما تحصله من ضريبة دخل الشركات. ومن اهم العوامل المساهمة في هذا التباين وجود اختلافات بن مجموعتي البلدان من حيث دخل الاجور ودرجة تطور الادارة الضريبية والنفوذ السياسي الذي تتمتع به شريحة السكان الاكثر ثراء. ومن جهة أخرى، تعتبر الايرادات المحصلة من الضرائب التجارية اعلى بكثير في البلدان النامية منها في البلدان الصناعية.

وعلى الرغم من صعوبة الخروج من نتائج المقارنات الدولية بوصفة معيارية واضحة للسياسات الضريبية تحدد المزيج الملائم من ضرائب الدخل والاستهلاك، فثمة مضمون واضح تكشف عنه هذه المقارنات وهو ان التنمية الاقتصادية تميل الى إحداث تحول نسبي في تكوين الايرادات من ضرائب الاستهلاك الى ضرائب الدخل الشخصي. ومع ذلك فان القضية ذات الاهمية الدائمة بصدد السياسة الضريبية في البلدان النامية ليست هي تحديد المزيج الضريبي الامثل بقدر ما هي تبيان الأهداف المنشودة من اي تحول يجري النظر فيه بالنسبة لهذا المزيج، وتقييم النتائج الاقتصادية لهذا التحول (على أوضاع الكفاءة والعدالة)، وتنفيذ تدابير تعويضية اذا ازداد حال الفقراء سواءاً من جراء هذا التحول. ويعد التنافس الضريبي تحديا آخر على صعيد السياسة في عالم يكفل الحرية في حركة رؤوس الأموال. فقد أصبحت فاعلية الحوافز الضريبية، مع الافتقار الى أساسيات ضرورية أخرى أمرا تحيط به الشكوك. ولا مفر من ان يصبح اي نظام ضريبي يشيع فيه استخدام هذه الحوافز أرضا خصبة لأعمال تحايل من اجل التربح. وحري بالبلدان النامية ان تحجم عن الاعتماد على الحوافز الضريبية غير ذات الأهداف المحددة كأداة أساسية لتشجيع الاستثمار وذلك حتى يتسنى لأسواقها الصاعدة ترسيخ دعائمها على أساس سليم.

وأخيرا. فإن ضرائب الدخل الشهري تسهم بقدر ضئيل للغاية في مجمل الإيرادات الضريبية لدى العديد من البلدان النامية. وبغض النظر عن الاعتبارات الهيكلية والإدارية واعتبارات السياسة، فان مدى السهولة التي يجري بها استثمار دخل الأفراد في الخارج يسهم بدرجة ملحوظة في تحقيق هذه النتيجة. ومن ثم فان فرض الضريبة على هذا الدخل يعد تحديا جسيما أمام البلدان النامية، وهو ما تسبب بالفعل في تعقيدات كبيرة لعدة بلدان في أمريكا اللاتينية قامت بإلغاء معظم الضرائب على الدخل المالي لتشجيع رؤوس الأموال على البقاء في الداخل.



خبير اقتصادي مصري