تحتدم مطالبات في الجزائر بحتمية مراجعة المخطط الإنمائي الخماسي (2010 ndash; 2014). ويرى خبراء ومتعاملون تحدثوا لـquot;إيلافquot; أنّ الخطوة تفرضها إخفاقات السياسة الاقتصادية المتبّعة وإفرازها لثورات لم تهدأ وسط الشارع المحلي، في صورة الإضرابات التي يفرضها مستخدمو أكثر من قطاع، وباتت تهدد بشلّ الحراك العام.
الجزائر: على الرّغم من موجة المهدئات التي أقرّتها السلطات الجزائرية، وآخرها المعلنة يوم الثلاثاء، تؤكد مراجع quot;إيلافquot; أنّ الساحة مرشحة للاشتعال، نظرًا إلى كون الاستعجال في اتخاذ quot;القرارات التصحيحيةquot; وquot;المناخ السيئ للاستثماراتquot; يبقيان الوضع على ما هو عليه.
يؤكد د.ناصر بويحياوي أنّ مؤدي القرارات الحكومية منذ ثورة الزيت والسكر في الخامس من يناير/كانون الثاني الماضي، لها مدلول واحد يتلخص في كون المخطط الإنمائي بنمطه الحالي quot;انتحاريًاquot;، ولن يقود سوى إلى فشل متجدد، على الرغم من استفادته من مخصصات قياسية بحدود 286 مليار دولار، كان ينبغي توجيهها لتحرير الآلة المنتجة والاستثمار في القطاعات المدرّة للثروات.
ويذهب بويحياوي إلى أنّ الغياب الواضح لاستيراتجية تنموية في الجزائر، لضرب اللحمة الاجتماعية وتوازناتها في الصميم مع زوال الطبقة المتوسطة، وبروز فئة مثيرة للجدل، يُطلق على المنتسبين إليها مسمّى quot;الأثرياء الجددquot;، وعليه يتصور أستاذ العلوم الاقتصادية في جامعة quot;تيزي وزوquot; الجزائرية أن يتم تحوير مسلكيات المخطط الإنمائي، بحيث يركّز على التنمية البشرية وخلق الثروات وفرص العمل، بدل الدعم العارض للمنتجات الواسعة الاستهلاك، بشكل يستجيب للرهانات والتطلعات العاجلة للجزائريين.
يلاحظ بويحياوي في تحليله لـquot;التنازلاتquot; التي قدمها مجلس الوزراء الجزائري في اجتماعيه الأخيرين، يلاحظ وجود إفلاس في الخيارات الاستيراتجية، حيث يرى الأكاديمي الجزائري أنّ السياسات الحكومية هي ردود أفعال أكثر من كونها أدوات تسيير منهجية ومدروسة، وذلك ناجم بحسبه من سياسة اقتصادية تفتقد إلى التوجيه.
بدوره، يؤيد أنيس نواري نظرة بويحياوي، ويحذر من أنّ تمسك السلطات بالثوب الحالي للمخطط ستنجر عنه اجترارات لهزال أكثر شراسة، منبّهًا إلى أنّ التباهي باحتياطي هائل من احتياطي الصرف والإشادة بصرف 286 مليار دولار في أقل من خمس سنوات، هو quot;محض تخدير وقفز على حقائق الميدانquot; على حد تعبيره.
المناخ السيئ وهاجس التسرع
يشير نواري إلى وجود تناقضات بين مطالبة للسلطات للمجموعات الاقتصادية بإنتاج أجود والارتقاء للتنافسية، وبين دعوتها إلى التشغيل، حتى إن كان على حساب حاجيات وتوجهات تلك المجموعات، فمن يدفع رواتب هؤلاء ومن يتحمل عواقب أعباء إضافية تقع على كواهل هذه المجموعات؟ يتساءل.
ويرى أنّه كان من الأحرى توجيه quot;الموظفين الجددquot; إلى مراكز تكوين وتأهيلهم ككوادر يتجاوبون مع مقتضيات الاقتصاد المحلي في ظل معاناة كثير من المؤسسات المنتجة ليد عاملة مؤهلة، بدلاً من الهروب إلى الأمام والاختباء وراء أرقام quot;ليس لها معنىquot; مثلما قال، مستغربًا إعلان الحكومة عن خلق نصف مليون فرصة عمل في العام الأخير، ويستدل محدثنا بكون العارفون بحقائق الاقتصاد المحلي يجزمون بعدم مقدرة هذا الاقتصاد على استحداث 150 ألف فرصة عمل على أقصى تقدير في العام، فكيف يمكن تحقيق ثلاثة ملايين وظيفة في خمس سنوات بمعدل ستمئة ألف سنويًا حتى العام 2014؟.
يلتقي بويحياوي ونواري عند ضرورة عدم الوقوع في فخ التسرع وإعطاء الأولوية للمؤسسات المصغرّة لتحقيق أهداف نوعية ليس بالضرورة في آفاق السنوات الأربع المقبلة، بل على المديين المتوسط والبعيد، ولا يكون ذلك بالإلغاء المثير للرسوم الضريبية والمستحقات الجمركية، وهي قرارات خاطئة وكارثية اقتصاديًا، حتى وإن كانت موصوفة سياسيًا واجتماعيًا بـquot;الجيدةquot;، طالما أنّ المنطق السليم يفرض موازنة سوق العرض والطلب، ودعوة المواطنين إلى شد الحزم وتغيير نمط الاستهلاك، بدل الإسراع في شراء السلم الاجتماعي بأي ثمن.
أما بشأن تخصيص الحكومة أغلفة مالية ضخمة لدعم المواد الواسعة الاستهلاك، فيوضح بويحياوي أنّ صرف أموال كثيرة لسد الثغرات غير مجدي وعبثي، والسؤال من سيدفع الفواتير لاحقًا؟، مع أنّ الأهمّ هو إنعاش منظومة الإنتاج، وتوخي استيراتيجية موجهة نحو القطاع الزراعي لتحقيق الاكتفاء الذاتي من المواد الواسعة الاستهلاك، بعدما قفزت الوارادات الغذائية من 2.5 مليار دولار إلى 8 مليارات دولار، فما الذي سيترتب عن حصار اقتصادي للجزائر يستمر لبضعة أسابيع فحسب؟ والخطر كله في الاستمرار بعدم إنتاج المواد الاستيراتجية والتعامي عن الاستثمار في القطاعات المدرّة للثروة.
من جانبه، يؤكد الخبير الاقتصادي الجزائري quot;عمر بسعودquot; أنّ الثورة في بلاده مرشحة للاشتعال مجددًا في ظلّ بقاء المناخ عينه الذي يؤججه الإخفاقات المدوية للسياسة الاقتصادية التي بينت عن عقم فادح وما ترتب عنها من مفارقة عائدات نفطية بين 60 و80 مليار دولار كل عام، من دون تحقيق نمو أو وظائف أو أفق، على الرغم من ثلاث خطط متتالية للإنماء الاقتصادي وبمخصصات قياسية زادت عن مئات المليارات من الدولارات حتى الآن.
بسعود يركّز على الطابع التضخيمي والمغلوط، الذي تقوم عليه كثير من البرامج الاقتصادية الحكومية، مثل إنشاء مليون وحدة سكنية وخلق ثلاثة ملايين فرصة عمل، وهو ما أرغم الجهاز التنفيذي على لعب دور الإطفائي واتخاذ إجراءات طارئة لامتصاص غضب مواطنيه في كل مرة، عبر إقرار أغلفة مالية تكميلية لا تعين سوى على ربح الوقت، على منوال 90 % من القرارات المصنفة في خانة الاستعجال والتصحيح، الذي لم يتم بناء على فهم حقيقي للواقع، بل اكتفى واضعوها بميكانيزمات أظهرت محدوديتها في السابق.
ويسجل بسعود أنّه رغم البحبوحة التي تتسم بها الجزائر واستفادة الخزانة العامة من احتياطي دخل فاق 156 مليار دولار، إلاّ أنّ غياب العقلانية في توظيف الأموال واستغلال الثروات أوصل البلد إلى جملة من الاحتباسات الكبرى التي حالت دون تجسيد كبريات المشاريع كالطريق السيار (شرق ndash; غرب) ومترو الأنفاق، الترامواي وتوسيع شبكة سكك الحديد وغيرها.
ويستدل الخبير بكون الإنفاق على عصرنة البنى التحتية في الجزائر منذ مطلع الألفية الثالثة تجاوز المائتي مليار دولار، مع ذلك لم تكن النتائج في مستوى هذه المبالغ الضخمة، حتى إنّ علي بوكرامي كاتب الدولة الجزائري المكلّف بالإحصاء، اعترف قبل أيام أنّ رفع معدل التشغيل في بلاده بـ3 % في السنوات الأخيرة لم يولّد الديناميكية التنموية المرجوة.
وعليه، تطرح عديد التساؤلات بشأن إنتاجية الوظائف التي تفاخر الحكومة باستحداثها، والتي تخفي منهجًا اعتمده الجهاز التنفيذي قام على دفع المؤسسات للتوظيف مهما كان ذلك يفوق أو لا يتناغم مع حاجاتها الفعلية، وهو ما يتعارض مع منطق البناء الاقتصادي، ويؤكد هرولة المسؤولين لامتصاص الغضب الاجتماعي بأي وسيلة كانت.
وإذا كان بوعلام مراكش رئيس الكونفيدرالية الجزائرية لأرباب العمل يثمّن التدابير الحكومية الأخيرة ويعتبرها مؤشرًا على ديمقراطية أكبر في توزيع وسائل الثروة على مواطنيه، فإنّه في المقابل يجزم باستحالة تطبيقها في القريب، إلاّ إذا حجّمت السلطات ظاهرة البيروقرطية، وتمكنت بواقعية من تقليم أظافر الفساد، وتوخّت الشفافية وسائر دعامات الحكم الراشد.
ينتقد مراكش إستهلاك صنّاع القرار الكثير من الوقت لاتخاذ قرارات حاسمة تحتاجها المؤسسات، وتضطر الأخيرة للانتظار طويلاً، لذا يطالب بانتصار السلطات للأفعال بدل الأقوال في تعليقه على حثّ الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة حكومته على إضفاء مرونة أكبر في تعاطي البنوك مع مناخ الأعمال وما يتصل بمعضلة القروض المرتهنة، حيث يشدد مراكش على حتمية التباعد مع الممارسات البيروقراطية وأقلمة النظام المصرفي المحلي مع المعايير والمتغيرات الدولية.
يكمن الخلل بأعين عموم الخبراء والمتعاملين في إسناد المهمة لإدارة ليست مؤهلة لتسيير ملفات بالغة التعقيد تقنيًا وماليًا، وضمان المتابعة الكافية لسيرورة مشروعات ضخمة، إلى جانب إمعانها في تجاهل قطاعات منتجة للثروة وعدم تطويرها ببرامج فعّالة، على منوال الزراعة، الصناعة، والسياحة رغم امتلاك الجزائر إمكانات هائلة.
في مقابل إستنزاف الحكومة للخزانة العامة بغرض امتصاص مديونية المجموعات المفلسة، لم يتم إقرار أي برنامج دعم للمؤسسات المصغرّة والمتوسطة، في وقت ظلّ المسؤولون الحكوميون على مدار سنوات طويلة يهللون لحجم الإنفاق القياسي، على الرغم من تكريس اللاعقلانية واللارقابة وما أفرزته من تبذير ورشوة وتبديد للمال العام، وهي مظاهر برزت في مشروع الطريق السيار وقضية مجموعة سوناطراك.
ويجمع متخصصون على أنّ انفتاح البلديات على التوظيف المتسارع وإعلان quot;الجزائرية للطيرانquot; عن تشغيل ألف موظف، لا يمكن أن يصنع الفارق ما لم يتم إيجاد وصفات منهجية دائمة وبعيدة المدى، يمكنها تخفيف حدة الضغط الاجتماعي وتذويب حجم الاستياء العارم بين ملايين الشباب، ويجب ألا يكون الخوف غير المعلن من السيناريوهات المصرية والتونسية والليبية، مدعاة لوقوع الحكومة الجزائرية في فخّ التسرع وعدم الذهاب إلى العمق عبر اعتمادها استيرتجية صلبة على المدى الطويل.
التعليقات