ما زالت مصر تترنح تحت وقع الأزمة الإقتصادية التي تنذر بما هو أسوأ في ظل الأزمات السياسية في البلاد، ناهيك عن الهبوط القياسي لسعر الجنيه في الأسبوع الماضي، الأمر الذي دفع بالبنك المركزي للإعلان عن نظام جديد لصرف العملات يحدّ من المضاربات، ويهدف إلى حماية احتياطات مصر، لكن هذا الإعلان لم يكسب تأييد المعارضين الذين اعتبروه تهديدًا أكثر مما هو حل، وصنفوه كخطوة جاءت بعد فوات الأوان.


مرّ عامان ومصر تعيش أزمة اقتصادية حادة صدّرت إليها من عهد الرئيس المخلوع مبارك، وزادت حدتها جراء الاستقرار السياسي الذي تعيشه البلاد.

وفي محاولة للحد من تدهور سعر صرف الجنيه، أصدر البنك المركزي المصري نظامًا جديدًا لصرف العملات هدفه الحدّ من المضاربات وحماية احتياطات مصر من العملات الأجنبية. منتقدو النظام الجديد وجدوا في إعلان البنك المركزي خطوة جاءت بعد فوات الآوان، وحذروا من خطورته، معتبرين أنه قد يزيد من وطأة الإجراءات التقشفية على فقراء مصر.

وكان سعر الجنيه المصري سجل هبوطًا قياسيًا في الأسبوع الماضي عندما بلغ نحو 6.4 جنيهات للدولار بعد قرار البنك المركزي العمل بنظام جديد لطرح عطاءات دورية في شراء وبيع الدولار محاولاً تثبيت قيمة الجنيه المصري.

وقررت الحكومة طرح 75 مليون دولار من العطاءات يوميًا، وتحديد ما يمكن للشركات أن تسحبه بـ 30 الف دولار في اليوم. ويهدف الإجراء الى الحدّ من المضاربات التي استنزفت إحتياطات مصر من العملات الأجنبية بنحو 60 في المئة منذ اندلاع الاحتجاجات في كانون الثاني/يناير 2011. ويبلغ إجمالي احتياطاتها من القطع الأجنبية الآن نحو 15 مليار دولار.

واعتبر محللون أن النظام الجديد لصرف العملات خطوة أولى إيجابية تسمح بتعويم الجنيه. تفاؤل لا ينسحب على كثيرين في القطاع المصرفي، الذين انتقدوا توقيت الإجراءات الجديدة التي برأيهم جاءت متأخرة عامًا على الأقل، خصوصاً وأن الطبقات الفقيرة وذات الدخل المحدود ستكون الأكثر تضررًا بهذا الرد المتأخر على هبوط قيمة الجنيه المصري.

وقال محمود أبو العيون محافظ البنك المركزي السابق، والذي ارتبط اسمه بقرار مصر التاريخي في تعويم عملتها والقضاء على السوق السوداء في كانون الثاني/يناير 2003، quot;كنا ننتظر هذا الإجراء منذ زمن طويلquot;. ونقلت صحيفة نيويورك تايمز عن أبو العيون قوله quot;إن البنك خسر للأسف الكثير من العملات الأجنبية، وهذا هو الثمن الذي دُفع بسبب تأخر القرارquot;.

وأسفرت إجراءات البنك المركزي المصري، التي عُدّت بمثابة خفض لقيمة العملة، عن هبوط سعر الجنيه المصري بنحو 3 في المئة خلال الأيام القليلة الماضية بعدما تحدد هامش هبوطه بنسبة 6 في المئة فقط منذ الانتفاضة التي أسقطت نظام الرئيس السابق حسني مبارك قبل نحو عامين.

كما إن الأزمة النقدية المتجددة تسلط ضوءاً ساطعًا على التحديات التي تواجه الرئيس محمد مرسي في وقت تحاول إدارته تهدئة الوضع إثر الإحتجاجات التي أثارها تمرير دستور مثير للجدل في مواجهة معارضة واسعة وشديدة. ويتيح نظام صرف العملة الجديد لسعر الجنيه المصري أن يعكس حالة العرض والطلب بصورة أفضل، ولكن لا يُعرف ما إذا كانت الآلية الجديدة ستوقف الضغط على الجنيه المصري.

ما هو واضح أن هبوط قيمة الجنيه المصري سيزيد بكل تأكيد أسعار مواد أساسية مستوردة، ما يؤدي إلى تضرر الـ 40 في المئة الذين يعيشون على حافة خط الفقر، ويعتمدون على دعم المواد الغذائية والمحروقات، من سكان مصر البالغ عددهم 85 مليونًا.

وقال أبو العيون quot;إن هذا سيزيد بدرجة كبيرة العبء المالي إذا إستمرت الحكومة في تقديم أموال الدعمquot;. وتوقع أبو العيون أن ترتفع أسعار المواد الغذائية الضرورية بنسبة 20 في المئة، إذا لم تتمكن الحكومة من تمويل عجزها، وإذا استمر الجنيه المصري في هبوطه، واصفًا الوضع بأنه quot;مأزقquot;، يؤشر إلى أوقات عصيبة ستواجهها الحكومة والبنك المركزي المصري.

تأتي مصر في المرتبة الثانية بين دول العالم في استيراد القمح، وهي مستورد كبير للشاي والسكر، والصعوبات التي كانت تواجهها أصلاً في تمويل الاستيرادات ستتفاقم في ظل هبوط سعر الجنية المصري، ما سيؤدي الى ارتفاع فاتورة الاستيراد.

واستباقًا للآثار الناجمة من انخفاض قيمة الجنيه المصري، تعتزم الحكومة زيادة الاعتمادات المخصصة للمواد الغذائية والسلع الضرورية في ميزانيتها، كما نُقل عن مسؤول في وزارة الاستثمار المصرية في صحيفة quot;ايجيبت اندبندنتquot; المصرية الصادرة بالانكليزية. كما تتخذ شركات القطاع العام لتوزيع السلع الاستهلاكية اجراءات احتياطية تحسبًا لهبوط سعر الجنيه المصري بحدة مقابل الدولار.

ومن المرجّح أن ترتفع أيضًا أسعار النفط والغاز بوصفهما مصدر تلبية الطلب على المحروقات المدعومة، ومن شأن ذلك أن يزيد الضغط على وضع مصر المالي الهش أصلاً.

وقال علاء عرفة رئيس شركة العرفة القابضة إنه كان يتوقع من الحكومة إصلاح أسعار الطاقة المدعومة قبل خفض قيمة العملة. ونقلت صحيفة نيويورك تايمز عن عرفة قوله quot;أنا حقًا لا أفهم هذا التفسير المالي والإقتصاديquot;.

وتنفق الحكومة المصرية نحو ربع ميزانيتها على إبقاء أسعار المحروقات متدنية، ولكن هذا الدعم في الغالب لا يصل الى من يحتاجونه حقًا، فيما يؤدي الفساد الى إرتفاع سعر المحروقات في السوق السوداء. ويلاحظ مراقبون أن الرئيس مرسي وحكومته ماطلا بشأن إتخاذ إجراءات مهمة كانت ستمنح مصر فرصة لإنعاش الاقتصاد، مثل إصلاح الدعم وزيادة الضرائب وأخذ قرض قيمته 4.8 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي.

وارتفعت البطالة الى أعلى مستوياتها منذ سنوات، حيث تبلغ الآن 12.6 في المئة، فيما تشير التقارير الرسمية الى أن عجز الميزانية سيزداد بنسبة 20 في المئة الى 200 مليار جنيه مصري أو 31.3 مليار دولار في السنة المنتهية في حزيران/يونيو المقبل، من 166.7 مليار جنيه مصري في 2011/2012. ويدعو أصحاب مصالح واقتصاديون منذ سقوط مبارك بأصوات تزداد ارتفاعًا الى إدارة خفض قيمة العملة، وكانت الحكومة والبنك المركزي يقاومان هذه الدعوات حتى هذا الأسبوع.

ورغم أن مصر أقدمت على تعويم الجنيه في عام 2003، فإن البنك المركزي المصري كان في الواقع يحدد سعر صرفه بصرامة من خلال الضوابط المالية وتبادل العملات الأجنبية.

ودأب مرسي وحكومته على نفي وجود أي تخفيض لقيمة العملة. وفي آب/اغسطس مثلاً رفض مرسي، بلهجة التحدي، مثل هذا التخفيض في قيمة العملة بوصفه quot;غير واردquot;. وعليه، فإن نظام العطاءات لشراء وبيع الدولار ما زال من الناحية التقنية تعويمًا موجهًا، وليس تخفيضًا لقيمة العملة، لكنّ اقتصاديين يقولون إنه لا فارق بين الأمرين عمليًا، وإن الفرق الوحيد هو التلاعب اللفظي لا أكثر.

وحاول مرسي هذا الأسبوع أن يطمئن المصريين قائلاً إن السوق ستعود الى الاستقرار في غضون أيام، وأإن هبوط سعر الجنيه المصري quot;لا يقلقنا ولا يخيفناquot;. ولكن كلماته لم تفعل شيئاً يُذكر لطمأنة المصريين، الذين يتسابقون على تبديل جنيهاتهم المصرية بدولارات، خشية استمرار سعر الجنيه المصري في الهبوط.