عبد الرحمن مصطفى : بعيدا عن صخب القاهرة وازدحام شوارعها، يأتي نهار الجمعة وديعا هادئا خلافا لبقية ايام الأسبوع، فالطرقات تكاد تخلو من المارة.. ولا يظهر أي نشاط يلفت الأنظار حتى موعد صلاة الجمعة التي يحرص العديد من المصريين على أدائها بانتظام في المساجد... جامع عمرو بن العاص هو احد المساجد التي تستقبل زوارها كل جمعة، غير أن لهذا المسجد سحره الخاص الذي يميزه عن بقية المساجد المصرية .

جامع عمرو بن العاص هو أول مسجد جامع بني في مصر وفي أفريقيا كلها، حيث يرجع بناؤه إلى عهد الفاتح المسلم عمرو بن العاص عام 21 هــ / 642 مــ، وتم بناء الجامع كنواة لمدينة الفسطاط التي اتخذها المسلمون الأوائل عاصمة إدارية جديدة لهم، وما زالت منطقة الفسطاط في حي مصر القديمة محتفظة بتلك التسمية القديمة حتى اليوم... وقديما.. لم يكن دور المسجد مقتصر فقط على الصلاة وشعائرها، بل كان الجامع أحد الأجهزة المهمة في الولاية الإسلامية، حيث كان يتم فيه القضاء بين الناس، وتقام فيه حلقات العلم، التي كان يخصص بعضها للنساء.

وتتميز المنطقة المجاورة لجامع عمرو بن العاص بطابع فريد جعل منها رمزا للتعايش بين الأديان، فعلى مرمى البصر من المسجد عدد من الكنائس المسيحية التاريخية المهمة، من أشهرها الكنيسة المعلقة، وكنيسة quot;مارجرجسquot;، هذا إلى جانب وجود معبد يهودي على امتداد هذه المنطقة هو معبد quot;بن عزراquot; التاريخي... وفي نفس المنطقة المجاورة للمسجد توجد مدافن لطوائف مسيحية شتى، كمدافن طائفة المارونيين، وطائفة الأقباط الكاثوليك، و طائفة الأرمن الكاثوليك.. ولا تبتعد هذه المدافن كثيرا عن مدافن المسلمين.

وتزداد جماهيرية جامع عمرو بن العاص في شهر رمضان من كل عام خصوصا بعد تجديد المسجد، حيث يتوافد عليه الآلاف كل عام لحضور صلوات التراويح، وخصوصا أثناء ليلة السابع والعشرين من رمضان، التي يحييها القارئ الشيخ محمد جبريل، والتي يتواجد فيها وجوه إعلامية مألوفة، وشخصيات دعوية شهيرة، تجتذب الزوار في تلك الفترة.. ويمتاز جامع عمرو بن العاص أيضا بأنه من المساجد الراسخة التي يصعب لأي تيار من التيارات الدينية أن يسيطر عليها بسهولة، غير أن المسجد قد شهد مؤخرا زيارات لتيارات سياسية حاولت استغلال سعة المكان وفرصة تواجد المصلين يوم الجمعة لأغراض سياسية، وهو ما جعل المسجد حاليا محاطا بعدد كبير من قوات الأمن أثناء أداء صلاة الجمعة من كل أسبوع، وقد زاد من حالة الاستنفار الأمني الملحوظ وقوع حوادث إرهابية شهدتها مصر في الفترة الأخيرة .

للتعرف أكثر عن روح المكان ومعالمه، خصوصا أثناء نهار الجمعة المميز، كان لابد من زيارة إلى جامع عمرو بن العاص لاكتشاف سحر هذا المكان.. فنهار الجمعة هو انسب الأوقات لمراقبة أثر المكان على الإنسان، وهو أنسب الأوقات للتمتع بمشاهدات الطريق إلى جامع عمرو في طرق قد خلت من زحامها وصخبها المعهود، حيث تأتي فرصة الاستمتاع بالتنقل بين وسائل المواصلات دون معاناة، وتنتهي الرحلة في محطة الأتوبيسات الملاصقة للمسجد.. ونظرا لأهمية المكان، فإن مترو الأنفاق أيضا كان قد خصص محطة في هذه المنطقة باسم quot;مارجرجسquot;، فما أن يخرج الزائر من محطة quot;مارجرجرسquot; حتى يجد أمامه المتحف القبطي و إلى جواره عدد من أشهر الكنائس في مصر، والتي يفد إليها الزوار من كافة الأنحاء لزيارتها، أما جامع عمرو بن العاص فليس بعيدا عن كل هذا، حيث يلاحظ الزائر محورية موقعه في هذه المنطقة المتميزة..

من بين ستة أبواب للمسجد اخترنا البوابة الرئيسية للمرور منها إلى داخل المسجد.. وما أن يمر الزائر من البوابة الرئيسية إلى الداخل حتى يلاحظ رحابة صحن المسجد الفسيح ذو الأرضية البيضاء، التي تغري الزائر بالسير عليها بعيدا عن جوانب المسجد الذي خصص الجانب الأيسر منها للنساء... وقبل موعد الصلاة بساعة، نستطيع مشاهدة بعض السائحين الغربيين الذين جاءوا إلى المسجد فرادى وهم يجوبون أنحاء المسجد، وترتدي السائحات الزائرات عباءات خضراء متشابهة يقدمها إليهن أحد حراس المسجد ndash; إجباريا- كي يتجولن داخل المسجد في احتشام... عمال النظافة في المسجد أخذوا يؤدون عملهم بنشاط آملين انتهاء مهمتهم سريعا قبل الصلاة بوقت مناسب، أما إذا ما تسللنا أكثر إلى جانب حوائط المسجد بعيدا عن الأنظار وخلف أعمدته، فنجد بعض الزوار مستلقون مابين الاسترخاء والنوم.. أما في مقدمة المسجد قرب المحراب والمنبر فنجد أعدادا أكبر من الزوار.. منهم من يتأمل، وأغلبية قد اختارت تلاوة القرآن.

قبل الصلاة بنصف ساعة، يبدأ قارئ المسجد في تلاوة القرآن عبر الميكروفونات، في أثناء ذلك.. يمر أحد زوار المسجد ومعه زجاجة عطر المسك، يمررها بين أيادي الزوار كي يتطيبوا بها، و يمر من خلفه غلام يحمل صندوق تبرعات كبير يمر به بين الزوار الجالسين في وقار يستمعون للقرآن الكريم.. أحدهم أخذ على عاتقه مهمة سقاية زوار المسجد الجالسين من حوله... وقت صلاة الظهر.. يـُـرفع الأذان.. وتمر خطبة الجمعة سريعا يلقيها شيخ الجامع الدكتور/ إسماعيل الدفتار الأستاذ في جامعة الأزهر، وتقام صلاة الجمعة، ويعقبها كعادة العديد من المساجد الكبرى صلاة جنازة على أحد الموتى، بعدها يجتمع بعض الزوار في شبه حلقة حول شيخ الجامع الذي يلقي درسا بعد الصلاة ثم يستمع إلى استفساراتهم.. آخرون انشغلوا في أماكن أخرى من المسجد بحوارات شخصية حماسية على عادة أبناء الأحياء الشعبية، وفي غفلة من الأهالي يمارس بعض الأطفال جنونهم بالاستمتاع بالتزلج في صحن المسجد ذو الأرضية البيضاء اللامعة، وليس غريبا على الآذان أن تجد نداء هنا داخليا على والد أحد الأطفال التائهين يطلب منه المجيء قرب المنبر... أما النساء فمن المألوف هنا أن تجد بعضهن يتجولن في صحن المسجد بغرض الشرب من صنابير المياه الموجودة بقبة الصحن، أو بغرض مشاهدة عظمة بناء المسجد.. وهذا على عكس أغلب المساجد التي تفصل فصلا تاما بين النساء والسيدات داخل المسجد.

يمر الوقت سريعا.. وعند الخروج من المسجد نلاحظ لوحة إعلان بجوار باب المسجد تعلن عن أنشطة تحفيظ القرآن ودروس للصغار، ومواعيد الدروس الدينية، وما أن نخرج من جامع عمرو بن العاص حتى نشعر بالاختلاف بين حالة السلم التي فرضها علينا جو المكان وبين حالة الصخب بالخارج مع أصوات الباعة الجائلين، وتحركات رجال الأمن والمرور..

ولا يسع الزائر أثناء رحلة عودته إلا وأن يفكر في حالة السلم التي وجدها في تلك المنطقة المتميزة من القاهرة، وهو ما قد يدفعه إلى تكرار الزيارة مرة أخرى... إلى جامع عمرو بن العاص ومنطقة الفسطاط.

تصويرعبد الرحمن مصطفى

[email protected]