في غمرة ما شاهدناه عبر شاشة التلفاز من شريط لمسلسلات درامية عراقية في شهر رمضان، وفي لحظة استعادة الوعي للتميز بين ما هو صالح وما هو أصلح ..، أو بين ما هو ناجح ومفسد للذوق في زمن انهالت علينا الفضائيات دفعة واحدة، كل واحدة تحمل في طياتها أسرارا من الوطنية والوطنية المزيفة ..والطائفية المقيتة، ونحس بمرارة ما تقدمه بعض الفضائيات من إشعال لنار الإرهاب والعنف الطائفي (مليشيا الحب ..مثلا )، نشعر برغبة الإشادة بمسلسل سيكون فاتحة خير للدراما العراقية بعد 9/4.
راهنت هذه الفضائيات برغبة كسب رهان المتلقي على ضخ شاشة شهر رمضان بمجموعة من المسلسلات ..حرضت بعضها على خطف طلاب الجامعات، فيما راحت بعضها تصف مسلسل العنف الذي يمر به الوطن، وما يجب علينا فعله..مؤكدة على أن هذه الأعمال الإجرامية خارج سياق الزمن العراقي ..
وسط هذا الكم الهائل ذُهلنا بمسلسل (السرداب) للمخرج العراقي محمد شكري جميل، إعداد عباس حربي الذي اخذ على عاتقه معالجة ما قدمته رواية السرداب رقم 2 ليوسف الصائغ بالشكل الذي يراه مناسبا على فضائية البغدادية، باشتراك كوكبة من فناني العراق يوسف العاني، مقداد عبد الرضا .. سامي عبد الحميد، عبد الخالق المختار، عبد الجبار الشرقاوي، رائد محسن، ستار خضير ومجموعة من الفنانين الذين قدموا أداء طيبا...، والعمل في مجمله احسبه نقطة مضيئة في سماء الدراما العراقية، والسبب الذي أجده مبررا لمنطق القبول ..هو أرشفة هذا المسلسل لرحلة العذاب التي مر بها الوطنيون في المعتقلات البعثية ..زمن نقرة السلمان ..سجن الحلة ...كركوك .
وكيف تتخلى الشخصيات داخل ذاك السرداب عن انتمائها الطائفي والعرقي، لتتحد في صفة النضال .. وتتخذ من رحلة الموت عنوانا لمسيرة عذاباتهم .
فما تضمنه المسلسل من ألقاب يكشف وطنية ما نوهنا به، وتخليهم عن النظرة الطائفية ( مجيد العجمي، كاكا كريم، الدكتور احسان، أبو النمنم، الشكرجي، العرجة، سلمان المحامي) مجموعة من الانتماءات والقوميات التي وحدها النضال .
كتبت الدكتورة عواطف نعيم في جريدة المدى بتأريخ 31 تشرين الأول 2006 عن المسلسل تحت عنوان (متابعة نقدية .. الدراما التلفازية العراقية..(السرداب)، واحسبها غير دقيقة في تشخيص بعض الفقرات المتعلقة بانفتاح الأفق الزماني وإحالة زمن المسلسل إلى مرحلة تأريخية معينة- الزمن الملكي(يعتمد المتن الحكائي للمسلسل التلفازي (السرداب) والذي يقع في خمس عشرة حلقة على رواية أدبية بالاسم ذاته للكاتب والشاعر الراحل يوسف الصائغ، وهي تروي ذكريات مجموعة من المعتقلين السياسيين من أصحاب الأفكار التقدمية التي تقف بالضد من الجهات الرجعية والعميلة في فترة الحكم الملكي للعراق آنذاك) والذي يطلع على المتن الروائي للصائغ لا يجد ذاك التحديد الذي افترضته الدكتورة، فالصائغ ومن بعده المخرج محمد شكري اشتركا في رؤية السرداب /المكان من دون تحديد الزمن، فهو سرداب لكل الأزمنة، بمعنى اتحاد الزمان والمكان في إلاشارة إلى كل ظالم يمارس بحق شعبه ومناضليه الظلم والسجن، ورميهم في أقبية سراديب/ سراديب البعث..
واستغرب من قول الدكتورة عواطف وهي تشير إلى ((أن تلك الشخصيات تتحدث عن مقاومة ونضال دون أن تتعرف على الجهة التي تنتمي إليها!!)، بلا شك من تم وضعه في السرداب من المناضلين زمن البعث يقتصر على (الشيوعيين، وحزب الدعوة )، والقراءة التي اتعرف من خلالها على هوية المناضل تتشكل من خلال لغتهم داخل السرداب وطريقة تفكيرهم، اضف إلى ذلك ..يأخذنا الأخر (القامع/البعثي) إلى كشف ملامح (المقموع )، عن طريق الزي (السفاري) المستخدم في المسلسل، فالزي يُدلنا على الزمن الذي نحن بصدد البحث فيه والتعرف على شخصياته، إذ إن ملامح الشخصيات تتضح في ضوء الزي (السفاري) الذي يكفي لتحديد هوية الشخصيات وملامحهم، لذلك اعتقد ان الدكتورة عواطف كانت قاسية بصدد الزمان والمكان حينما تقول: ((فلم تكن هناك دالة واضحة تشير إلى فترة زمنية أو إلى جهة سياسية أو إلى سلطة قمعية ما تتيح للمتلقي ان يتعرف إليها ويدرك أبعادها وحجم مساوئها. لقد تم تعويم الزمان والمكان وتم التلاعب بالحقائق ونفدت بعض المشاهد بطريقة فيها الكثير من السذاجة التي تبدو غير مبررة، وبقينا أمام شخصيات سقطت في التناقض والغموض كشخصية العجمي)، قد اتفق معها بشأن المكان والخطأ الذي وقع فيه المخرج، ولكنني اختلف معها في البعد الزمني، من زاوية أخرى كان لابد للدكتورة عواطف وهي تتحدث عن شخصية مثل شخصية العجمي ان تدرك: ان الضبابية داخل المعتقلات قد ترافق الكثير من الشخصيات بحيث تتلاشى المصداقية فيما بينهم، وهذا الأمر بحد ذاته ناتج عن الضغط النفسي الذي يفرضه السرداب .
كما أشارت الدكتورة إلى أن المسلسل لا يشتغل على المكان المتحرك :( ولعل المشكلة الأساس في مسلسل (السرداب) هي السرداب ذاته الذي وقع في التكرار والمتوقع، فالمكان واحد ثابت والمتغير فيه هو حركة الشخصيات مع بعضها ومع ذواتها ومع ما يحيط بها).
الإشارة الوحيدة التي تكشف رمزية المكان والزمان تتشكل من خلال عرض سيرة الشخصيات عبر الاسترجاع المستمر بين شخصيات السرداب وسارد السيرة الشخصية لحياة كل معتقل، فعندما بدأ الشكرجي بعرض سيرة العرجة للمحامي سلمان (سامي عبد الحميد ) عن طريق الاسترجاع .. انكشفت رمزية الزمان والمكان، فبإبداع المخرج الذي استثمر الزي (السفاري ) الذي يعرفه العراقيون جميعا، دلل على مرحلة ومكان تأرخيين في حياة العراق ..سلطة البعث /والزي السفاري الذي يدل على المخبرين أصحاب(الإدارة المحلية، والأمن العامة )، وهي إشارة ذكية أفاد منها المخرج محمد شكري من اجل ان لا يقع أسيرا لفخ إرهاب البعث الجديد ...
-هل يحق لنا ان نقول إن المخرج كان خائفا ؟
ربما المنطق العقلاني في الابتعاد عن إدانة البعث بصورة صريحة وسط هذا الخواء الأمني، هو الذي دفع بالمخرج إلى عدم التصريح بمن هو المدين ...
ثمة إشارة وردت في مقدمة رواية الراحل يوسف الصائغ هي في جوهرها خوف من نوع اخر : ( ليس لهذه التجربة اتصال بأي غرض سياسي أو أية جهة سياسية ..إنها تصف معاناة اشترك فيها الكثير من الناس الذين واجهوا العسف، بسبب ما يسمى (السياسة)..على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم .هذه الصفحات معنية بأن تعيد لهم جميعا اعتبارهم، لأنهم لأسباب عديدة، حاولوا ان يكونوا طيبين وصادقين، ولم يكن ذلك ..دائما في متناولهم بسبب السرداب))(1)، فقول الصائغ :( ليس لهذه التجربة اتصال بأي غرض سياسي أو أية جهة سياسية) يدعو إلى التبرير لان زمن طباعة الرواية جاء في ايام حكم البعث 1997، وهو يعيش داخل العراق، فإشارته في اقل تقدير تبعد عين الرقيب عن ممارسة سطوته، ولكن...
- هل يحق للمخرج بعد سقوط البعث أن يتجاوز حدود الخوف؟!
كل الإشارات تدل على أن الخوف ما زال مستمرا، وان سلطة البعث ما تزال تمارس نشاطها بأسلوب مغاير قائم على الاطلاقة بلا زي( سفاري)، اطلاقة مجهولة الهوية ..وينتهي الأمر ..
أنا اعتقد ان الخوف غير مبرر في زمن صار واجبا علينا وضع النقاط على الحروف لنبين مناطق الورم السرطاني في جسد العراق ..
سأنظر من زاوية أخرى ....وأتساءل بطريقة فيها الكثير من التوجس ...
-أين الدراما العراقية التي تُدين النظام السابق وتكشف عهر الممارسة التي اقترفت بحق هذا الشعب المظلوم وبحق النخب السياسية ؟
نحن ندرك بأن التجربة الألمانية بعد مرور كل هذا الوقت ما تزال توجه اللوم والنقد للنازية، لاسيما في عازف البيانو على الرغم من قصديّة إعادة الاعتبار لليهود الذين طالتهم قسوة الحكم النازي ..
افهم من ذالك ..بأن الأعمال الدرامية العراقية ما تزال أسيرة الخوف ..ولن يسمح لها النجاح اذا ما ظلت أسيرة الحذر والخوف . ما عادت العقلانية بنافعة في ظل الموت البشع الذي يدخل بيوت كل العراقيين(اطلاقة، تفخيخ، عبوة، صاروخ) ..
المواقف التي احسبها مهمة في تشخيص عيوب العمل تتلخص في ابتعاد المخرج عن تمثل المكان (السرداب ) بالشكل المطلوب والحقيقي، فالسرداب كما هو متعارف على فهمه: المكان الذي يقع تحت الأرض، وما قدمه المخرج في المسلسل لم يكن سردابا وإنما غرفة اعتقال ...
الإضاءة الفاضحة التي تضمنت المشاهد في المسلسل تكشف ما نقوله، فضلا عن الدرج الفاصل بين غرفة الاعتقال والمغاسل والحركة الروتينية بينهما التي رافقت العمل ..بضع دراجات وينتقل المعتقل ..، ويبدو لي ان السرداب ابعد ما يكون عن هذا الفضاء .
السرداب في فهمنا /مظلم /تحت الأرض، اما سرداب محمد شكري جميل فلم يكن كذلك ..
جاءت حركة الشخصيات بداية العمل مملة بسبب الحركة الروتينية التي تدعو إلى الملل، حركة مكوكية بين المغاسل والسرداب-سرداب محمد شكري ndash; أفقدتنا شهوة التواصل ...كان لازما على المخرج ان يجد طريقة في معالجة هذه الزاوية.
العمل في مجمله ndash;على ما قدمته من ملاحظات ndash; علامة تستحق الاحترام في فضاء الدراما العراقية ....
تحية طيبة مرة أخرى لكل من أسهم في هذا العمل .
(1)-السرداب رقم 2، يوسف الصائغ، افاق الكتابة، مصر، 1997.
التعليقات