quot;.... عندما تتفكك تيارات التواصل هذه، وتتصلب او تنهار مشاركة الفهم بين الذوات، فان شرط الأستمرار في الحياة يتعرض للخطر، ذلك الشرط الذي هو اساسي تماما لنجاح العقل الأداتي.| (هابرماس- المعرفة والمصلحة)
اوهامنا التشكيلية مكشوفة للاخر وغير متوارية والاخر غربتنا يستوي في ذلك ابناء جلدتنا او الغرباء عن هذه الجلدة. وما دونه الناقد فاروق يوسف عن معرض (الثقافة الثالثة1) متماهي في غربة الغربة للحد الذي كان وهمه او حلمه الذي رافقه رحلته البحرية عصيا على الكشف، والوهم صنعتنا المعلنة او المستترة او المفوضة للأمساك ببعض من حقائقها، وصنعة الناقد فك ستر هذه الأحلام قدر تماهيه واياها. وبما اننا غرباء والغربة نسبية داخلية وخارجية والخارجية منها غالبا ما تكون كشوفات حساب عندنا نحن الغرباء ( المهاجرون) العرب بالذات وجلد الذات من اولياتنا و خاضع للنوايا العمومية والخاصة من المحيط الى الخليج وهو الاخر وهما يستوي لمستوى الحقائق ليس كما وهم ( النظرية العلمية) التي تستقي حقائقها من فعلها التطبيقي.
الأوهام اوالتباساتها وردت في بعض من مقاطع مدونة الناقد كما رصدناها فيما يلي:
الوهم الأول مثبت في قوله نيابة عن منظم العرض ومدير شبكة الفنانين(عبد الأمير الخطيب): (يعتقد عبد الأمير الخطيب منظم معرض(الثقافة الثالثة) الذي شهدته هلسنكي مؤخرا، ان الأعمال الفنية التي ينتجها الفنانون المهاجرون، تمهد لظهور ثقافة جديدة، هي الثقافة البينية التي قطعت جذورها بالثقافة الأم، وفشلت في الوقت نفسه في الأندماج بالثقافة المحيطة بها.). ما يؤكده الخطيب من خلال بعض اقواله الموثقة(2) او من خلال محادثاته عن مفهومه للثقافة الثالثة لا يبتعد احيانا عن مألوف التفسيرات العربية الشائعة بانها تاثيرات تبادلية ينتج عنها اعمالا تحمل بصمة الثقافتين الأم والمستوطنة، اما عن فشلها المزعوم فما يطرحه نظريا فليس بعيدا عن مفهومها العام اي عولمتها الفاعلة وهو المتابع لأطروحاتها منذ زمن ليس بالقصير وليس في الأمر التباسا لكي يكرس تفسيرا ثانويا او اثنيا لعمله او دليلا يسترشد به. ولست ادري ما هو مغزى تعميم الفشل بالوقت الذي يسجل هذا المعرض بالذات نقاطا ايجابية لصالح هذه المجموعة المغتربة، ويكرس المعرض ظاهرة تشكيلية لا تختلف عن العديد من العروض التشكيلية الجماعية هنا (في الغرب) وفي زمننا هذا.
الوهم الثاني: التعميم ايضا وهم وما اورده وتؤكده اشارته التالية( هناك قلة من الفنانين المهاجرين استطاعت ان تنفذ من العزلة المفروضة عليها، وهي قلة غالبا ما انكر افرادها اية صلة لهم بثقافاتهم الأصلية ليكون هذا الأنكار ثمنا لقبولهم كجزء من ثقافة الغرب.). وهم القبول من الأخرين وفي المجال التشكيلي اعتقده غير صائب، فالأعمال الفنية ارواح هائمة تدخل النفس دون استأذان، وكلما كان العمل او الفعل الفني يحمل شروطه التي لا تبتعد عن روح العصر، ونحن جزء منه، فلا اعتقده قابلا للأقصاء من احد الا في حدود معينة محسوبة بما تخلفة وجهات النظر الأجتماعية او السياسية الأنتهاكية من كلا الطرفين. اما تعميم بعض التصريحات من قبل احد التشكيليين العرب المهاجرين ومثلائه لوجهة النظر هذه، فأمر لا يعتد به، وهومحسوب بنواياه المبطنة( وقد سبق ان تناولت هذا الموضوع منذ عدة سنوات). كما ان لشبكة الفنانين الأجانب خصوصيتها، فمجالها لا ينحصر في جاليات مهاجرة دون غيرها، وينتمي اليها اضافة الى بعض الفنانين العرب المهاجرين فنانون اوربيون مهاجرون من دول اوربية لصيقة او بعيدة(البعد نسبيا) مع معرفتنا بروابطها العميقة او التي سوف تحصل على هذا العمق من خلال اتحاداتها السياسية والتجارية وروابط حضارية اخرى. كذلك فنانون من شرق الأرض وغربها. و سياسة الشبكة الثقافية لا تنحصر بجالية معينة لكي نلغمها باحباطاتها المفترضة مثلا. وانا اعرف ان غالبية منتميها حصلوا على روابط اندماجية حياتية وثقافية وهم منتجون بحدود قدراتهم ضمن وسطهم الجديد. وان كانت الأختراقات او الأختلالات لتفسير بعض المفاهيم السياسية تؤثر على تلقي البعض، لكني اعتقدها غير محبطة لدرجة تأصيل العجز او تسييسه. وهي في محصلتها النهائية جزء من اشكاليات الأندماج العامة، مع ذلك تبقى مساحة مناورة الفنان التشكيلي مفتوحة على افاق واسعة وتعتمد على كفاءة المبدع المهنية والثقافية. فالثقافة باتت الان سلعة ولها عاملوها وباتت بعيدةعن الأحتكار التقليدي.
الوهم الثالث. ويورده كما يلي(... حضر الفنانون من بلدان المهجر الأوربي، لا ليمثلوها ولا ليعيدوا بذاكرتهم المتشعبة الى اماكنهم الأصلية، لذلك فان معظم الأعمال الفنية خرج على مفهوم الفن التقليدي وسعى الى ان يكون مراة لحياة غلب عليها التشظي والحيرة والمواجهة المتوترة مع الاخر..).
الخروج على الفن التقليدي سمة العصر، وباتت المهرجانية من صفاتها والفنتازيا احدى تشعباتها التي تكتسب من خلالها مشروعية مساحتها المنسجمة وفنتازيا بقية الفنون البصرية الأخرى. وان كان الطفل( تلميذ الروضة المدرسية) تتشبع حواسه بثقافة الملصق او اللوحة الفنية وانامله تتحرك بحرية على مفاتيح (بورد الكومبيتر) لولوج عوالم فنتازيا ال (بلي ستيشن) ومستجداته الغرائبية، فما حالنا ببقية المتلقيين من مختلف الأعمار. ما اعتقده ان معرض الثقافة الثالثة لم يكن بعيدا عن هكذا طرح ثقافي. وهذا لا يعني ابتعادا عن ذهنيات تشكلت بخلفيات مختلفة، اذا عرفنا مديات اجتهادات الطروحات او البحوث التشكيلية الشخصية او المعملية وخصائصها المحلية النسبية لكل مسطح جغرافي من مسطحات الأرض العديدة. اما عن المواجهة مع الاخر، فلا اعتقده صراعا على احقية او سبق ما، بقدر من ابراز اجتهادات تشكيلية تكرس الفعل الأنساني مشاعية تواصلية لا تحدها حدود. وليس في الأمر من لبس يرجع لأختلاطات ظروف ونوايا المسعى الأندماجي الأجتماعي لبعض الجاليات واشكاليات النتاجات التشكيلية لبعض فنانيها. والمواجهة لا معنى لها الا في حدود ملغوماتها السياسية وهذا لا يعني انها بعيدة او غير واردة اطلاقا في الفعل التشكيلي، لكنها تبقى محصورة في نطاق يضيق بوهم يكرس عنفها فعلا تواصليا. وهي لا تشكل الا في حدود ضيقة من مساحة هذا العرض الذي غلب عليه الفعل الثقافي التواصلي الأنساني.
الوهم الرابع: (كان معرض الثقافة الثالثة صورة عن فكرة هي مراة لأسلوب هامشي في العيش.). اجد ان هذا التفسير ملتبس لحد الدهشة. فقد كانت اسئلة الأبداع( مع تحفظي على كونها اسئلة بالمعنى الحرفي) التي اشتغل عليها الفنانون في هذا العرض تكرس البيوغرافيا الشخصية والجمعية مجالا للبوح الأبداعي وليس لتكريس الهامش او نفيه، ومعظم الأعمال تحاور محمولات ونوازع انسانية، وبعضها حد التماهي والنيرفانا، وتؤكد على الفعل التواصلي معبرا للاخر، ولا تشكل بعض الأعمال التي تحاور حيرة الهجرة الأستفهامية الا حيزا صغيرا من مساحة العرض، وتندرج مع بقية الأعمال مساحة تنوع في وسط يؤكد تنوعه الثقافي. ولا اكون مغاليا اذا قلت بان كل الأعمال استقت مصادرها الأبداعية من جغرافيا بلدان الفنانين الأم مع اختلاطات محمولات الثقافة التشكيلية لبلدان هجراتهم. وما هذا الأمتزاج الفاعل الا دليلا ايجابيا على اهمية تلاقح الثقافات الأنسانية والتي اعتقدها جوهر الثقافة الثالثة.
الوهم الخامس: الوهم النقدي التحليلي( وكلنا عرضة لتداعياته). رغم كونه اشاراتي موجز الا ان فاروق كان قريبا بمسافة من غالبية العروض الفردية التي اشار اليها مع ولعه المعلن بفنتازيا بعض مستجدات التشكيل، وهو ولع كثيرا ما يستحوذ علينا، ليس بمعنى الأستحواذ لحد سد مسارب التجريب الثقافي المرجعي بافاقه العديدة. بل في مجال التبصر بالأجراءات الأدائية المستحدثة، ومع ذلك فالأمريبقى نسبيا ما دام يخضع دوما للتجريب ومحمولاته الجمعية والفردية. في زمن مراوغ دوما في تكريس او استحداث او اقصاء او استعادة للقيم الفنية والتشكيلية منها، وهذا ليس معناه انكارا لوسائل التجديد ومحمولاتها الأتصالية.
واخيرا ان كانت اوهامنا التشكيلية قابلة للأفصاح عن مخبوئاتها للحد الذي تتماها به واوهام الاخرين ظمن مساحة وهم الحياة الكبير فهي قابلة للمناورة الثقافية بشروط زمن هو الأكثر اثارة والتباسا.


المقال كتب ردا على مقالة الناقد فاروق يوسف والمعنونة (الثقافة الثالثة تبحث عن هويتها في هلسنكي) والمنشور في المنتدى الثقثافي لصحيف الشرق الوسط وتحت الرابط التالي:
javascript:ol('http://aawsat.com/details.asp?section=19amp;issue=10361amp;article=414527')

1- معرض الثقافة الثالثة لشبكة الفنانين الأجانب الذي افتتح في هلسنكي في الثاني من شهر شباط الماضي.