... اجتثاث البعث والمقاومة والدين

أحمد الله على أنني لم أكن في يوم من الأيام بعثيا، وأحمده كذلك لأنني لست من أنصار سفك دماء الأبرياء بحجة تحرير العراق، وأحمده ثالثة لأنني لست أصوليا أو طائفيا ولا قومجيا ولا لينينيا، وأحمده رابعة لأنني لم أسرق أموال الشعب العراقي المظلوم والمغلوب على أمره و لم أتجول في فنادق الدرجة الأولى أو حتى العاشرة بأموال مسروقة أو مختلسة من أي كان، وبودي أن أشكره مرة تالية على أن فوضى الوضع العراقي ومحنة وحيرة أهله والتكالب من قبل الكثيرين على المغانم السريعة وركوب موجة اقتناص اللحظة ، لم تدفعني للترشح لنيل عضوية الجمعية الوطنية مثلا، كما ولا توجد لدي طموحات بتنسم المناصب. على أنني أتقدم له بالحمد والشكروالثناء على نعمة حب العراق وأهل العراق وانحيازي للعراق. بما أنه لاناقة لي ولا جمل من وراء طرح آرائي بشأن ما يجري في العراق سوى ابتغاء الحقيقة بما يخدم ذلك الانحياز.
رب سائل يتساءل، ما الذي أريده إذن من هذا العراق؟ ببساطة ووضوح تامين أقول: أريد من هذا العراق أن يصون كرامة أهله، أن يرفع من شأنهم وأن يعجّل بتعويضهم عما أصابهم من بلاء في العهود السابقة الفاسدة الفاسقة الشوفينية المدمرة، وأن يكون عراقا معياره الكفاءة وحسب، لا فساد إداري ومحسوبية ومنسوبية فيه، عراقا يقتبس جوهر ووهج الماضي لاغير: من نبل العادات وتجلي الفكر والعقل وانفتاحه، لكن بعيون متفتحة تتطلع دائما إلى أمام، أن يكون عراقا متسامحا في كافة المجالات لا إكراه فيه، مدركا لتركيبة سكانه المتنوعة المتعددة، عراقا ينبذ ما يعتقل بني البشر فكريا وسلوكا بحجة المعتقد والمذهب والعادات والتقاليد، عراقا ينبذ التسلط على الآخرين بالتستر تحت عباءة الدين والقومية والوطنية الزائفة، عراقا يعلي من شأن المرأة بإنصافها ورفع الحيف عنها ومساواتها بالرجل، عراقا يغتنم الفرصة التاريخية السانحة ليعيد بناءه من جديد، وأخيرا أريد انتخابات تجري على أساس برامج انتخابية واضحة ومسؤولة لأحزاب أو منظمات وقوى سياسية أو اجتماعية واضحة المعالم والأهداف، لا بأسماء أفراد وحسب، لأن زمن القائد الوحيد الأوحد قد انتهى وسيكون من المعيب والمقززللغاية مجرد التفكير بذلك.
لكن بما أن تحقيق ذلك يرقى إلى مصافي الأمنيات في الوقت الراهن، دعونا نفكر،على الأقل، بالطرق والوسائل الكفيلة بتقريبنا من تلكم الأمنيات.
كل نظام حكم متحضرلابد وأن يحتكم إلى جملة من المعايير والسلوك الفردي والمؤسساتي. عليه الاحتكام أولا وأخيرا للقانون ولمعايير أخلاقية مجربة تاريخيا واجتماعيا. الحقيقة التي علينا جمعيا الاعتراف بها هي أن العراق وبغض النظر عن الطرف المسؤول عن تلكم الانتقالة، قد دخل مرحلة جديدة تماما في تاريخه على الإطلاق، ومن لم يعترف بهذا الواقع الجديد ويدخل في خيار العمل السلمي سيعرض نفسه وبلاده لمخاطر تأخير التحولات الجارية ومن ثم لفقدان فرصة تاريخية مؤاتية لا تعوض لتأسيس عراق جديد مابعد سقوطين لبغداد: سقوطها في 1258 وسقوطها في التاسع من نيسان عام 2003. وإذا كان السقوط الأول ذا طابع بربري تدميري كلي، فأن السقوط الثاني دون شك جاء وفي رحمه إمكانية، لو جرى توظيفها بمسؤولية وغيرة على مصير العراق لأمكنها أن تخلق عراقا جديدا حقا في ظل ملابسات وظروف إقليمية ودولية لاترحم. لذا فإن رفع شعارات ديماغوجية تتستر بالقومية والوطنية الزائفة وبمفردات الاحتلال(على أنه المسؤول الأول عما آلت عليه حال العراق الذي تم تدميره قبل الاحتلال أساسا) وتأويلات مزيفة وتكفيرية ومتخلفة للدين أثبت التاريخ في الخمسين سنة الأخيرة على الأقل فشلها وعقمها، تجعلنا نشكك بدعاتها ونوايا الجهات المروجة لها بقوة، لأنها وببساطة تذكرنا بالحقبة القريبة المقبورة التي دمرت العراق وشعبه وقادت إلى السقوط الثاني.

اجتثاث البعث
كلنا يعرف أن هناك هيأة أو لجنة عليا لاجتثاث البعث، أثيرت حولها الكثير من الاعتراضات والاتهامات لاسيما من طرف مؤيدي النظام السابق والمناهضين للوضع الجديد في العراق. إن ملاحقة ومحاسبة المسؤولين عن تقتيل العراقيين وتدمير البلاد من أتباع النظام السابق مسؤولية إنسانية وقانونية قبل أن تكون وطنية.
لكنها محفوفة بخطر استغلالها لأغراض سياسية أوشخصية أوانتخابية آنية ومستقبلية، إذا لم توضع في إطار واضح محدد ضمن آلية قانونية محددة زمنيا. أعني لابد من إعداد قوائم بأسماء واضحة محددة من المتهمين بدون اللجوء إلى العموميات، وثانيا وضع غطاء زمني محدد لغلق هذا الملف. وبعكس ذلك ستفقد هذه القضية الإنسانية والوطنية الملتهبة مبرر وجودها. أمامنا تجارب عدة، تحضرني منها التجربة البولندية في هذا المجال.
لقد حرّم الدستور البولندي الجديد تشكيل أحزاب ومنظمات توتاليتارية أو شوفينية أو ذات طابع وبرامج معادية للديموقراطية وحقوق الإنسان أو تدعو للعنف وتحرّض على الكراهية. لكن البولنديين، منذ أن فتحوا ملف المحاسبة في مطلع التسعينيات من القرن المنصرم، لم ينجحوا حتى يومنا هذا في غلق ملف رموز النظام الشيوعي السابق لأنهم ربطوه بملف التعاون مع مخابرات وأمن النظام المذكور، بحيث لم يعد بوسع أي كان من المتعاونين مع المخابرات السوفياتية أو قوى الأمن البولندية تبوء أي مركز في البلاد، ناهيك عن العمل في صفوف الأمن والمخابرات في مرحلة ما بعد التغيير. المشكلة الأخلاقية التي تعرض لها ملف المحاسبة المذكورهو أنه قد جرى استغلاله من قوى سياسية سبق وأن استولت على الملفات الأمنية، من خلال اتهام شخصيات بولندية وبعض الأجانب المقيمين في بولندا، بتعاونها مع أجهزة الأمن أو المخابرات الداخلية أو السوفياتية ثبتت براءة قسم منهم فيما بعد، الأمر الذي ألحق أفدح الأضرار بهؤلاء الناس وبمسيرة التحولات الجديدة. طالت هذه الاتهامات شخصيات، مثل الرئيس البولندي ألكسندر كفاشنيفسكي، وليخ فاوينسا الرئيس الأسبق وقائد حركة التضامن الشهيرة، ورئيس الوزراء البولندي السابق مارك بلكا وشخصيات دينية وسياسية وثقافية أخرى.
لذا فإن عدم حسم ملف اجتثاث البعث بشفافية وبمسؤولية عالية ومحاولة غلق هذا الملف بأسرع ما يمكن سيؤدي إلى عواقب لا تخدم البلاد. هذا من جهة ومن الجهة الأخرى فإن المنع الضروري لعمل حزب العمال البولندي الموحد أدى إلى تأسيس أحزاب ومنظمات أخرى بأسماء جديدة، سوى أن البولنديين حكومة ومعارضة لم يستخدموا السلاح ضد بعضهم البعض كما حصل ويحصل في العراق!

شعار المقاومة والدين وجهان لعملة واحدة
قامت بعض رموز النظام البعثي السابق، بعد قناعتهم باستحالة عودة حزب البعث للسلطة بوجهه القديم، بتشكيل أحزاب ومنظمات سياسية ومدنية بمسيات غير بعثية إلا أنها تحمل نفس عقلية وممارسات حزب البعث السابق وترفع شعارات براقة فارغة تتوسل بعبارات الوطنية ومقارعة الإحتلال لكي تعود للسلطة. الاحتلال ليس شرطا أبديا مطلقا، وعملية تصوير تحسن الأوضاع الداخلية في العراق بمجرد رحيل الإحتلال تصور غير دقيق وملغوم ولاتدعمه تجارب الشعوب الأخرى إطلاقا. على أننا نلمس ظاهرة تتمثل بسعي أعداد متزايدة من داعمي اللجوء للعنف والمواجهة المسلحة لدخول العملية السياسية وهذا أمر جيد، لكن ما يدعو للريبة والحذر الشديد هو أن بعض هذه الرموز تتعاون مع قوى الإرهاب أو القوى المسلحة، حتى بات بعضها يقود هذه الحركات بشكل سري. هؤلاء يهددون الآخرين بتلويحهم بين الفينة والأخرى بكلمة المقاومة وعدم الاستقرار وما شابه ذلك دعما لتوجهاتهم الرامية للعودة إلى دفة الحكم بشكل أو بآخر.
ثمة قضية أخرى لا تنفك تؤرق المراقبين للشأن العراقي، وقبل كل شيء، المتنورين وأتباع الأقليات الأثنية والدينية الأخرى في البلاد، وأعني بذلك توظيف العامل الديني بمبالغة واضحة لتحقيق مكاسب سياسية. نلمس هذا التوجه سواء في أوساط مناصري التحولات الجديدة الجارية من ذوي التوجهات الدينية ممن اكتوا بنار الماضي البغيض أو في أوساط الرافضين لمعطيات الوضع الجديد ممن كانوا ينتمون أو يدعمون أساسا النظام السابق من جهة أو من الرافضين للوجود الأجنبي من جهة ثانية. نرى أن كبت الحريات الفردية والعامة تحت شعارات دينية ضيقة أو التوكؤ على مهماز الدين في تكفير الآخرين لهو ممارسة خطيرة ستجلب المخاطر لهذه الفئات أولا وللبلاد برمتها لاحقا. وعليه، فوفقا لمنظور مؤسسات المجتمع المدني محليا وعالميا، يمكن وضع علامة المساواة (من حيث العواقب) ما بين هذه القطبين ووصفهما بأنهما وجهان لعملة واحدة، بغض النظر عن نبل هذا التوجه أو لؤم وتحجرذاك. لأن الانفراد بحق امتلاك الحقيقة وإلغاء أو تهميش الآخر بعيدا عن معايير المواطنة والكفاءة لايختلف من حيث الجوهر عن طبيعة وممارسات النظام السابق.
من هنا نرى بأن مصلحة العراق في المرحلة الراهنة على الأقل تتطلب وعيا وممارسة سياسية وأخلاقية مسؤولة تستند إلى نبذ العنف والانخراط بالعملية السياسية سلميا والسعي لجدولة وضع القوات الأجنبية في البلاد بعقلانية تأخذ مصلحة العراق في المقام الأول، بالارتباط مع قدرة القوات العراقية بمختلف أصنافها على ملأ الفراغ الناجم عن مثل هذا الانسحاب مستقبلا، بحيث لن يشكل انسحاب القوات الأجنبية أية خلخلة أو زعزعة للأوضاع السياسية في البلاد المتمثلة بتداول السلطة سلميا وعن طريق صناديق الاقتراع لا غير. على العراقيين أن يثبتوا لأنفسهم أولا أنهم جديرون بالحياة لا الموت.