لو كنت وزيرًا للتربية في لبنان لأدخلت كتب المرحوم "اسكندر رياشي" في المواد المقرّرة لتاريخ لبنان المعاصر. وأعتقد أنَّ الناشئة في لبنان، لا سيَّما المراهقون منهم لن يحتجُّوا. ففي سن المراهقة كانت مادة التاريخ من أنشف المواد إطلاقًا. اسكندر رياشي، الصحافي الظريف، و"البلاي بوي" الأنيق، سمسار الفرنسيِّين وعميلهم باعترافه، لاعب القمار مع كبار السياسيِّين، والآكل على موائدهم، ومشاركهم في حفلاتهم "الرومانية" الصاخبة وصفقاتهم، والشاهد على فضائحهم الجنسيَّة، كان أفضل مؤرِّخ لتلك الحقبة من تاريخ لبنان. الفرق بين رياشي وسواه من أبناء عصره أنَّه كان حراميًّا "جنتلمان". أمَّا معظم أترابه من سياسيِّين وصحافيِّين فكانوا حراميِّين حاف.
لا شكَّ عندي في أنَّ التلاميذ اليافعين سيجدون في التاريخ كما يقصُّه رياشي مادَّة تثير فضولهم واهتمامهم وأحلامهم الجنسيَّة، وتضحكهم قبل أن تبكيهم وتشعرهم بالعار من أجدادهم وآبائهم. ولكن ما علاقة كلِّ هذا بالأستاذ جبران تويني؟ عفوًا، نسينا. الأستاذ جبران يعتقد أنَّ الفساد دخل لبنان سنة 1976، وخرج مع آخر شاحنة سوريَّة سنة 2005!
يقول الأستاذ تويني في مقاله "تحقَّق الحلم وقام لبنان"، الذي نشرته النهار في 27 نيسان الحالي: "فاللبنانيُّون لا يستطيعون أن ينسوا أن سوريا حكمت لبنان طوال ثلاثين عاماً وأفادت منه ومن ماله وخيراته، وكذلك من جنى اللبنانيين وعرقهم. كما ساهمت في تفتيت المجتمع العائلي والسياسي، وعملت على منع تلاقي اللبنانيين وتصالحهم تطبيقاً لسياسة فرّق تسد، بالاضافة الى دورها في الحرب والخطف والقتل والتدمير والتهجير..."
لو صَدَقَ الأستاذ تويني لذكَّر قرَّاءه أوَّلاً بالأسباب التي دفعت بعض اللبنانيِّين للاستجارة بالسوريِّين سنة 1976، وبعد ذلك سنة 1987. ولو صَدَقَ لقال لقرَّائه أنَّه في التسعة والعشرين سنة التي "حكم" فيها السوريُّون لبنان، حكمه أيضًا الفلسطينيَّون، والأميركان والفرنسيُّون والطليان، ولا ننسى بالطبع الإسرائيليِّين. غريب، كم تستثير "عنجر" غضب الأستاذ تويني، ولكن "ضبيَّة" التي كانت مركز الحاكم الإسرائيلي "أوري لوبراني" في لبنان وهي أقرب إليه بكثير من عنجر جغرافيًّا، لا تسثير منه حتَّى همسة. غريب أن لا ينطق بكلمة عن العصابات والمليشيات التي هي أيضًا "حكمت" في مناطقها والتي "أفادت من لبنان ومن ماله وخيراته، وكذلك من جنى اللبنانيِّين وعرقهم. كما ساهمت في تفتيت المجتمع العائلي والسياسي، وعملت على منع تلاقي اللبنانيِّين وتصالحهم بالإضافة إلى دورها في الحرب والخطف والقتل والتدمير والتهجير..." غريبة هذه الذاكرة الانتقائيَّة غير الصادقة!
أمَّا لو قرأ الأستاذ تويني اسكندر رياشي، وهو على ما نعتقد كان صديقًا للعائلة، وشريكًا لها في بعض مضارباتها الصحافيَّة كما سنبيِّن، لعرف أنَّ ما يفرح ويهلِّل له بالقول "لبنان قام حقًا قام" قد حدث في كلِّ منعطف من تاريخ لبنان المعاصر. فإذا كان يسوع الناصري قام مرَّة واحدة من ضريحه، فإنَّ لبنان "قام" مع كلِّ فاتح، بعد أن "نام" معه في فراشه، وعلَّمه الفساد والرشوة. فلنتصفح معًا بعض ما ذكره اسكندر في كتابه "قبل وبعد" الجزء الأوَّل 1918- 1941، مبتدئين ببعض عناوين الفصول:
"عندما اشترى عمَّال فرنسا لبنان للفرنسيِّين"، "قبضوا وقبضنا وقبضايات"، "تمديد لا تجديد"، "كلُّنا بالهوى سوى، الحراميَّة الجنتلمان"، "بيوت من زجاج تتراشق بالحجار"، "الطابور الخامس في بيروت الحسناء".
على الرغم من أنَّ العناوين أعلاه تكاد تصف بالحرف الوضع السياسي في لبنان اليوم، والسجالات المقزِّزة التي قامت بين من يسمُّون أنفسهم معارضة وموالاة، فإنَّها إنَّما تصف عهد الفرنسيِّين، الذي جاء في أعقاب عهد العثمانيِّين. وكم يسهب رياشي في وصف الحفلات الصاخبة التي أقامها أولئك اللبنانيُّون في الحي السرسقي للفرنسيِّين، تمامًا كما كانوا يقيمونها للحاكم التركي حتَّى نهاية الحرب العالميَّة الأولى. لنعد إلى رياشي، يقول في صفحة 36: "قد يكون الفرنسيُّون أرادوا أن يحكموا بعدل وإنصاف وتنظيم، ولكن ليس الفرنسيِّين هم الذين أفسدوا كلَّ هذا، بل نحن." ويقول بعد أسطر قليلة في صفحة 37 بكلِّ صدق وصراحة يندى لها الجبين، ما يلي:
"إنَّنا لا نكون مبالغين ولا مختلقين إذا قلنا إنَّ أهالي هذه البلاد ألقوا دروسًا على الأتراك في فن الرشوة والارتشاء والاستثمار. كنَّا نفتِّش عن اكتساب رضى الأتراك بكلِّ ما عندنا من حيل، وبكلِّ ما عندنا من أسباب وطرق للإغراء! ولا أريد أن أقول إنَّ الكثيرات من حسان هذه البلاد كنَّ في رأس ذلك الإغراء – ممَّا يجري دومًا في كلِّ بلاد يدخلها القوي ويحكمها فاتحًا. ولكن ما بالغ فيه أهالي هذه البلاد بالأكثريَّة أثناء الحربين الكبيرتين هو أنَّ العدد الأكبر من مئات الحسان، كنَّ يصلن إلى أسرَّة الأسياد الحاكمين الأتراك، ومن بعدهم الفرنسيِّين والإنكليز والأستراليَّة، عن طريق الحنان الأبوي والبركة الأبويَّة."
هل لنا بـ "حرامي جنتلمان" تكون عنده الجرأة الأدبيَّة فيكتب عن الحسان موديل 1976-2005، الذين اقتادهم آباؤهم وأزواجهم إلى أسرَّة الذين مرُّوا في لبنان الحديث من مختلف الجنسيَّات لقاء صفقة أو وعد بعمولة.
في كتاب رياشي سخرية مرَّة، ولكن فيه ما يضحك ويلقي بالضوء على مصادر ثروات بعض الكبار من صحافيِّي اليوم. هذا ما نجده في فصلٍ بعنوان: "جورج لطف الله المرشَّح لعرش لبنان." والقصَّة باختصار أنَّ بعض الصحافيِّين زيَّنوا لمثرٍ لبنانيٍّ كبير مقيم في مصر أن يشتري عرش إمارة في لبنان. فلمَّا ركبت القصَّة في رأسه توجَّه إلى فرنسا للحصول على الدعم، ومن ثمَّ إلى لبنان ناثرًا الذهب بين أيدي صحافيِّيه لكي يروِّجوا له. وكان المثري من الحرص أن أجبرهم على التوقيع على بيانات القبض. فلندع رياشي يتابع القصَّة بعد أن فشل سعي الطامح للأمارة فاشتكى على الصحافيِّين طالبًا منهم ردَّ المال الذي قبضوه منه، صفحة 77-78:
"وهؤلاء الصحافيِّون الذين كان بينهم من يصلِّي بالنهار ويفخر على العالم بتجرُّده ونزاهته، ومع ذلك يبيع نفسه بالليل – هؤلاء لم يكن بإمكانهم أن ينكروا أنَّهم كانوا دعاته المأجورين – وذلك عندما أقام عليهم الأمير الدعوى بعد أن خسر المعركة نهائيًّا، يطالبهم فيها بإرجاع المال الذي كانوا يأخذونه منه. ونذكر من هؤلاء الزملاء جبران التويني، خليل كسيب، جبرائيل خبَّاز، خير الدين الأحدب، محمد اليافي، نحن وغيرنا.
ترى كم من صحافي يهلِّل لقيامة لبنان في النهار، وهو مجهول مكان "النوم" في الليل!
لقد أخطأت الشام في لبنان كثيرًا وأكبر أخطائها أنَّها وقعت في فخ الفساد اللبناني عوضًا عن أن تقطع دابره. أمَّا إنَّ الفساد لم يكن قبل دخول السوريِّين إلى لبنان فهذا محض هراء. إنَّ الناشئة اللبنانيَّة التي تطلب الحقيقة وراء مقتل الحريري، يحقُّ لها أيضًا أن تعرف حقيقة تاريخها وتتعلَّم منه علَّنا لمرَّة واحدة نبني وطنًا لا سوق بغاء.