عام 1991 تم اصدار بيان من قبل مجموعة من البعثيين السابقين اللاجئين خارج العراق نشر كاملا في المجلة الدولية التي تصدر من باريس كما قامت بعض الصحف العربية بنشر مقتطفات منه وقد اعتمد البيان الاسس التالية في خطابه :
-لم تعد لحزب البعث اية فعالية سياسية ولم يعد حزبا بالمفهوم التنظيمي المعتمد على نظام داخلي بعد ان حوله صدام حسين الى حراس وكتاب تقارير يوالونه شخصيا قبل اي ولاء اخر.
-ان فصل صدام حسين وقيادته من الحزب حاجة ماسة قبل اعادة النظر في تجديد منطلقاته والقيام بنقد فكري وسياسي لمسيرته .
-محاكمة القيادة الحالية نزولا الى محاكمة اي حزبي يثبت القانون انه قد ارتكب جريمة .
-يمكن دراسة التطورات والتغييرات التي قامت بها الاحزاب الشيوعية في اوربا الشرقية في برامجها ونهجها .
-اغلبية الحزبيين لم يعودوا مرتبطين فكريا بالحزب وانهم يعرفون اكثر من غيرهم عيوب المسيرة واخطاءها وجرائمها .
-العمل على تفعيل المعارضة داخل الحزب مدنيا وعسكريا نحو الاطاحة بحكم صدام حسين على غرار( الحركة التصحيحية في سوريا) .

كان رد النظام العراقي انذاك عنيفا وقاسيا على هذا الطرح وصدرت تعليمات للهجوم على اصحاب البيان باسمائهم في الصحف العراقية وتم تنفيذ ذلك من قبل الاقلام المأجورة .. كان صدام حسين يرى ان هناك اربعة اخطار جدية يمكن ان تهدد حكمه قبل نشوب الحرب العراقية الايرانية : الاقتصاد/ القضية الكردية/ الطائفية/ التأمر داخل الحزب على حد تعبيره, واعتبر المسألة الرابعة اخطر الامور اطلاقا . لذلك كان الرد مبالغا في القسوة وما زالت اثاره قائمة .
وردت اعتراضات كثيرة من حركات المعارضة العراقية حول هذا المشروع تتلخص في ان التغيير يهدف الى ابقاء حزب البعث ناقصا صدام حسين وهو ليس التغيير المنشود كما ورد اعتراض قوي من سوريا يتهم اصحاب البيان بأن المخابرات المركزية الامريكية تقف وراء هذا المشروع ولم تكن التهمة صحيحة البتة .
كانت الاجابة على رأي بعض اطراف المعارضة العراقية انذاك : لا توجد صيغة اخرى اكثر فاعلية من هذه الصيغة وان اي تغيير يجب ان يترافق مع اصلاحات تؤمن بالتعددية ويمكن تغيير اسم الحزب واعادة النظر في شعاراته ورؤيته الوطنية .
انتكس هذا المشروع عام 1993 بعد ان تلقى ضربات قوية داخل العراق واستمر على شكل اتصالات تتم بجهد وتمويل فرديين .
بعد سقوط النظام وفي ظل الفوضى السياسية التي اعقبت ذلك لم يكلف احد نفسه متابعة هذا الامر وكان الحزبيون جميعا من مؤيد لصدام او معارض له في خانة واحدة . ولم تكن هناك اية فرصة للتمييز الا حسب المواقع الحزبية علما بأن الجريمة قد يرتكبها حزبي من درجة دنيا ولا يرتكبها اخر من درجة حزبية اعلى ذلك ان الحزب اصلا فقد نظامه الداخلي وتساسله الحزبي وتحول الى عشيرة للولاء .
ان نظرة متأنية الى تأريخ الاحزاب العراقية تجعلنا نكتشف حقيقة مفادها ان الضغط على مجموعة ما يجعلها تتماسك وتتعلق ببعضها دون ان تكون هناك علاقة موضوعية بين التلاحم والمبدأ . انه نوع من العناد العراقي لا غير .
لو جرت مقابلات هادئة مع بعثيين للسؤال منهم عن مدى ايمانهم بقيادة صدام حسين وما هي نظرتهم لقوى الامن والمخابرات او افراد العائلة الحاكمة لكانت اكثرية الاجابات مفاجأة لمن لا يعرف الوضع داخل الحزب المهتريء .
ربما يرد سؤال منطقي جدا : كيف نفسر وجود بعثيين معارضين داخل الحزب وهم يمارسون حياتهم الحزبية .. مثل هذا السؤال يوجه عادة من قبل اجنبي او عراقي مغترب لفترة طويلة : لا يستطيع اي حزبي ترك الحزب او الاستقالة وقد يعدم على ذلك وفي افضل الاحوال يفصل من الحزب وينتج عن ذلك عقوبة وظيفية تصل الى الفصل بموجب قرار من الحزب ربط فيه بين العقوبة الحزبية والوظيفية .. هذا ويسمي الحزب كل بعثي سابق خرج على النظام ( مرتدا ) مستعيرا من الدين اقسى عقوبة فيه .
البعثيون المعارضون صمتوا والقليل منهم انتمى لبعض الحركات التي تحاول استمالتهم لاغراض انتخابية بحتة .
في هذه الحالة المرتبكة نجد بيانات لحزب البعث تتحدث عن ( الرئيس القائد ) وكأن شيئا لم يحصل دون اية اشارة للكارثة ومسببيها وتستخم اللغة نفسها والمنطق نفسه.
بعد تشرين الثاني عام 1963 اي بعد سقوط تجربة حزب البعث الاولى في العراق وزعت نشرة داخلية لحزب البعث على شكل كراس بغلاف اخضر تنتقد فيه تجربة الثامن من شباط نقدا مريرا وتحرم اي اعتقال بسبب سياسي وتشير الى ضرب الحزب للقوى الوطنية .. وبعد اسبوع من توزيعها قيل انها جهة منشقة عن الحزب .
اذا كانت تلك التجربة قد ادت الى انشقاقات والى ظهور نقد غير مألوف والى انسحاب الكثير من الحزب فأن ما حصل خلال فترة الحكم الاخيرة بحاجة الى اكثر من محكمة واكثر من نقد بل انها يجب ان تقود الى صحوة يرى بها البعثيون صدام على حقيقته .
هل هو عناد لا يستند الى منطق وعقل .. هل هو ولاء على طريقة موالاة العشيرة .. ام انه احتفاء بالجريمة والاخطاء وشهوة مريضة للحكم وحسب .
لا بأس من الاختلاف مع الوضع الحالي او رفض وجود القوات الاجنبية او طرح رؤى سياسية مغايرة الا ان الخطأ القاتل يكمن في التمسك بقيادة صدام وزمرته دون احترام لآية معايير وطنية .. ان هذا النهج لا يقود الى حضور سياسي الان او غدا وهو رهان خاسر سلفا , ان تعبير الحزب عن نفسه يعتمد على االركائز التالية :
_ ان صدام حسين هو اول من ( اجتث ) حزب البعث وحوله الى عشيرة وعائلة واجهزة امن خاصة واعتبر معيار الولاء له شخصيا قبل الوطن وقبل الحزب .
_ محاكمة العهد السابق ومحاكمة اي حزبي تثبت ادانته في جريمة .
_ اعادة النظر في منهج حزب البعث والموازنة بين ما هو قومي وما هو وطني والنظر الى موضوع الحرية نظرة معاصرة ومراجعة وتحديث الافكار الاخرى .
_ اعلان برنامج صريح فيه اعتذار للشعب العراقي عما ارتكبه الحزب او ارتكب بأسمه من قبل القيادة السابقة . وتغيير اسم الحزب من باب الاعتذار .
_ خوض الانتخابات العامة في مواجهة جديدة مع الشعب الذي سيدلي برأيه الفيصل في ذلك .
ان الدعوة الى مصالحة وطنية يقصد بها التصالح مع البعثيين رغم ان من يدعو اليها لا يقول ذلك صراحة وهي مرحلة لا بد ان تعقب او تترافق مع محاكمة كل من اجرم من الحزبيين من اجل ايفاء الدين الثقيل وحسم التهم المعلقة.
فأذا تجاوزنا هذه المرحلة ولا بد من تجاوزها كي لا نسمي الجميع مجرمين او ابرياء فأن الخلافات السياسية او الفكرية لا بد ان تجد لها متسعا من المساحة في عراق تعددي , ولا يمكن محاسبة اي عراقي على انتمائه الفكري الحالي او السابق اذ ليس من المنطقي اعادة الاخطاء والخطايا نفسها بعد كل هذا الثمن الباهظ .
هذه المصالحة هي وطنية تنبع من حاجة البلد الى ذلك , غير ان المصالحة التي تشير اليها وسائل الاعلام والاتصالات السرية الجارية بين الطرف الامريكي ومجاميع صدام حسين هي شيء اخر يتم السعي اليها لغايات وحسابات اخرى وهو تحديدا تخفيف الضغط على القوات الامريكية ولا علاقة لها بالمصالحة التي نقصدها .. ان من الخطأ السير في هذه الطريق الوعرة لسببين :
اولا : ان هذه المحاولات تؤذي الشعب العراقي وتؤذي كل من رأى في صدام حسين اساس الكارثة حتى من البعثيين انفسهم .
ثانيا : ان من يقلق القوات الامريكية ليست هذه المجاميع حتى لو وجد منها نفر يحمل السلاح . ومن نافلة القول ان عددا هائلا كان ينتمي الى حزب البعث انتماء شكليا ولو تمكنا من اجراء احصاء حقيقي لوجدنا ان كثيرا من المنتمين للاحزاب الحالية كانوا في حزب البعث ايضا .
الامر الاخر الذي يثير الاستغراب وهو اللهاث وراء عناصر النظام السابق والموجودة في بعض الدول العربية ودعوتهم الى الحوار لاسباب انتخابية بحتة واهمال الاف المواطنين الذين كانوا بعثيين وحسب, دون جرائم ودون ان يضطروا للهرب . هذا ايضا لا يدخل في باب المصالحة .