بالإمكان تقسيم تاريخ العراق الحديث إلى خمس مراحل تاريخية. المرحلة الأولى هي التي بدأت بتأسيس الدولة العراقية الحديثة "العهد الملكي" في بداية عشرينات القرن الماضي، وانتهت بقيام النظام الجمهوري في 14 تموز 1958. والمرحلة الثانية بدأت في 8 شباط 1963 وحتى 18 تشرين الثاني 1963، وحكم خلالها حزب البعث للمرة الأولى، والمرحلة الثالثة بدأت منذ ذاك التاريخ وحتى 17 تموز 1968، وهي مرحلة حكم الأخوين عارف. والمرحلة الرابعة هي الممتدة منذ ذاك التاريخ وحتى 9 نيسان 2003، وهي الفترة الثانية لحكم البعث، أو بالأصح، حكم صدام حسين. والمرحلة الأخيرة هي التي بدأ يعيشها العراق منذ ذاك التاريخ وحتى الوقت الحاضر. وباستثناء ما يعيشه العراق الآن، فان من ما فترة تاريخية شهدت اضطرابا سياسيا واجتماعيا، مثل تلك الفترة المحصورة بين14 تموز 1958 و 8 شباط 1963. وما من رئيس عراقي تعرض لمحاولات قتل أو إزاحة، سواء من جهات عراقية أو عربية أو أجنبية، مثلما تعرض له، أنذاك، رئيس الوزراء العراقي ومؤسس أول نظام جمهوري، الزعيم عبد الكريم قاسم.
في الواقع، هناك تشابه، يكاد يصل إلى حد التطابق أحيانا، بين ما يعيشه العراق الآن، وبين ما عاشه خلال حقبة الجمهورية الأولى التي بدأت في 14 تموز 1958 وانتهت في 8 شباط 1963، سواء من ناحية أنواع الأصطفافات الداخلية والتدخلات الخارجية، وأماكن التوتر، واللاعبين المؤثرين، داخليا وخارجيا، بل حتى في مفردات الشتائم والاتهامات السياسية المتبادلة.
فخلال فترة الجمهورية الأولى، كانت أماكن التوتر هي نفسها الموجودة هذه الأيام. المناطق المعارضة للحكومة وقتذاك هي نفسها مناطق التوتر حاليا: محافظة الأنبار والموصل وكركوك وما يسمى الآن بمثلث الموت جنوب غرب بغداد، وأعظمية بغداد وكرخها "شارع حيفا، الآن". وتلك المناطق كانت تقابلها مناطق الموالاة في الجنوب والوسط ومنطقة كوردستان في الشمال. وبينما نجد هذه الأيام أن التناحر الرئيسي يتم بين الأحزاب السياسية الشيعية وحلفائها من الأحزاب الكوردية، من جهة، وبين الجهات العروبية "حزب البعث" وحلفاءه أو من يؤيد نهجه من الجماعات السياسية الدينية، من جهة أخرى، فأن التناحر آنذاك كان بين حكومة الثورة والحزب الشيوعي وحليفه الحزب الديمقراطي الكوردستاني، من جهة، وبين الجماعات القومية العروبية ومن يتحالف معها من الجهات الدينية. في تلك الفترة كان شعار المعارضة هو، يا أعداء الشيوعية اتحدوا. وألان شعار المعارضة هو، يا أعداء الأحزاب السياسية الشيعية اتحدوا. أما فيما يخص الشتائم أو التهم السياسية آنذاك، فقد كان التركيز يتم على "كفر والحاد" الحزب الشيوعي، والعمالة للأجنبي "عملاء موسكو"، واتهام الحزب الشيوعي وحلفاءه الكورد في الإساءة والنيل من القومية العربية، وعدم الحرص على عروبة العراق " تهمة الشعوبية". والآن، فأن نفس مفردات القاموس السياسي يعاد تكرارها: اتهام الأحزاب السياسية الشيعية بالكفر والخروج عن ملة الإسلام " روافض"، والطعن في عروبتهم واتهامهم بالتنكر لعروبة العراق «تهمة الشعوبية"، واتهامهم بالعمالة للأجنبي وخيانة العراق "عملاء إيران، خدم الاميركيين". وعلى الصعيد الإعلامي، فأن التجربة الجديدة تواجه هجوما حادا تقوم به الفضائيات العربية والكثير من الصحف العربية. أما خلال الوضع السياسي بعد ثورة تموز، فقد كانت محطة "صوت العرب" المصرية هي التي تنوب مناب الفضائيات العربية، ومعها كانت، أيضا، الكثير من الصحف العربية الصادرة في بيروت. وفيما يخص مواقف الحكومات العربية والشارع العربي، فقد ألقت، آنذاك، مصر بكل ثقلها للقضاء على الزعيم عبد الكريم قاسم والوضع السياسي الذي كان يقوده. وكان الشارع العربي في غالبيته المطلقة ضد ما يجري داخل العراق حينذاك، ما خلا بعض البؤر في بعض البلدان العربية، كالبحرين، على سبيل المثال. وفي الوقت الحاضر فأن الشارع العربي في جميع البلدان العربية يقف ضد التجربة السياسية الجديدة في العراق، وهناك اتهامات عراقية ضد بعض الدول العربية بسبب تدخلها في الشؤون الداخلية، وسعيها لإفشال التجربة الجديدة.
ومثلما ذكرنا في البداية، فأن جميع المراحل التاريخية التي مر بها العراق الحديث، لم تعرف اضطرابا وتناحرا مثلما عرفته مرحلة ما بعد ثورة 14 تموز 1958، وكذلك مرحلة ما بعد سقوط نظام صدام حسين، بما في ذلك التشابه الذي ذكرناه، ويكاد يكرر نفسه، حرفيا، في بعض الحالات.
بالتأكيد، لا يمكن أن نعزي الأسباب إلى المصادفات وحدها. ولهذا يجدر البحث عن معرفة الأسباب الحقيقة.
إن الشبه، أو الرابط المشترك بين ما حدث يوم 14 تموز 1958 وبين ما حدث في 9 نيسان 2003، يكمن في أن الحدثين تجاوزا الخطوط الحمر، أي التوازنات التي قامت عليها الدولة العراقية الحديثة، ودشنتها وزارة عبد الرحمن النقيب التي تشكلت في 25 تشرين الأول 1925، حيث تم تهميش الغالبية الشيعة والكورد، ومعهم تم، أيضا، تهميش السواد الأعظم من العراقيين بجميع مذاهبهم وقومياتهم، عندما استأثرت بالسلطة نخب اجتماعية وعائلات بعينها. جميع محاولات الانقلابات العسكرية، والتظاهرات، والتمردات، والمؤامرات التي حدثت منذ 1925 وحتى 14 تموز 1958، وكذلك الانقلابات العسكرية التي حدثت منذ 8 شباط 1963 وحتى سقوط نظام صدام حسين، كانت تحدث ضمن تلك الخطوط الحمر، ولم تتجاوزها. وحدها ثورة 14 تموز، هي التي أخلت، ولأول مرة، بتلك التوازنات، عندما خلقت الثورة وضعا جديدا، وجدت فيه الجهات المهمشة، ليس فقط لأسباب طائفية، وإنما لأسباب دينية وأثنية واجتماعية وسياسية، فرصتها التاريخية لكي تكون في متن المعادلة، وليس على الهامش. وبهذا المعنى، فأن ثورة 14 تموز 1958 مهدت الطريق لما يحدث حاليا داخل العراق.
فبعد نجاح الثورة ظهرت إلى الوجود ثلاث سلطات. الأولى هي سلطة رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم. والثانية هي "سلطة" الشارع، التي كان يمثلها ويقودها الحزب الشيوعي. والسلطة الثالثة هي سلطة المؤسسة العسكرية، التي خرج من رحمها العسكريون الذين نفذوا الثورة. وكانت السلطتان الأولى والثانية متقاربتين في الأهداف، رغم الخلاف الكبير في رؤى كل واحدة منهما. والدليل هو، وقوف الشيوعيين العراقيين للدفاع عن سلطة قاسم عندما تعرضت للانهيار. أما "سلطة" المؤسسة العسكرية فقد كانت ترمي، كما سنبين لاحقا، إلى تحقيق أهداف أخرى.
لقد حاول الزعيم قاسم، ومنذ الأيام الأولى للثورة، أن ينأى بنفسه عن المحاصصة بجميع أنواعها، وعن الانحياز لهذه الجهة أو تلك، وأن يظل "فوق الميول والاتجاهات"، ليس السياسية فحسب، وإنما الدينية والطائفية والعشائرية والمناطقية والطبقية /استفادت إثناء حكمه الطبقة البرجوازية وكذلك الفئات الفقيرة/. كان الزعيم يتصرف كرجل دولة عراقية واحدة، وكرئيس منتخب من قبل الأكثرية "البرلمانية"، لكنه ملزم بالدفاع عن حقوق الأقلية، أيضا.. ورغم أن الزعيم لم ينس لحظة واحدة الإشادة بثورة 14 تموز، لكنه كان يحكم، أو يحاول صادقا أن يحكم، وفق "شرعية الدولة"، وليس "شرعية الثورة". وفي نفس الوقت فأن إشادته التي لم تتوقف يوما واحدا بالجيش العراقي، كانت تعني، عمليا على الأقل، أخراج الجيش عن سكة أرث النخب العثمانية التي كان يجسدها نوري السعيد وجعفر العسكري وجميل المدفعي وياسين الهاشمي وطه الهاشمي، ووضع المؤسسة على سكة عموم الشعب، الرافد للجيش بالقوة الرئيسية من الجنود والعرفاء ونواب الضباط. أي أن تكون المؤسسة العسكرية لكل الشعب، وليس حكرا على نخب بعينها. وهذا هو المعنى الذي كان قاسم يقصده عندما كان يخاطب العراقيين بقوله أن الجيش هو منكم وأليكم. وكمحاولة لإتمام هذا المسعى، أو السير في هذه الفلسفة، كان قاسم يبدي اهتماما، يصل حد الهوس، بأنصاف فقراء العراقيين، وذوي الدخل المحدود، كما كان يسميهم. ما كان قاسم يفرق بين مظلومية ومظلومية أخرى، بين فقير شيعي مظلوم وبين فقير سني مظلوم، بين ذوي الدخل المحدود الكورد والعرب والتركمان. كان قاسم يسعى لأعطاء ثورة 14 تموز بعدا ديمقراطيا. وكان يريد أن يمنح الثورة بعدا اجتماعيا، أيضا، ولكن بحدود معقولة، وفقا لرؤية توفيقية، واقعية، لا تريد حرق المراحل. ومن هنا، أصدادمه بالحزب الشيوعي العراقي، بعد العام الأول من الثورة.
فيما يخص الحزب الشيوعي، صاحب "سلطة" الشارع، فإنه لم يكن بعيدا عن رؤيا قاسم "العراقية" الشاملة، الرافضة لأي محاصصة. لقد كان الحزب الشيوعي، وما يزال حتى الآن رغم ضمور نفوذه الجماهيري، بل ربما هو الآن أكثر من قبل، الجهة السياسية "العراقية" التي تتساوى عندها جميع أنواع المظلوميات، وجميع أشكالها، أيضا، أي بما في ذلك مظلومية المرأة. وقد سار الحزب الشيوعي، وربما بنوع من المبالغة، على هدى هذه الفلسفة منذ بداية تأسيسه، عندما وضع لنفسه، وفي آن واحد، مهمات متعددة، طبقية "التزام قضايا العمال والفلاحين" وأممية "أنصاف الكورد والأقليات الأخرى" وتحررية "استقلال العراق" وتقدمية "حقوق المراة". ولهذا، فأن العراقيين الذين وقفوا مع الحزب الشيوعي وساندوه بالآلاف، مباشرة بعد ثورة 14 تموز، ما كانوا ينتمون لطائفة واحدة أو منطقة جغرافية واحدة أو قومية واحدة أو لدين واحد. بالطبع، كانت أكثرية مؤيديه من الوسط والجنوب الشيعيين. وذلك تم لعدة أسباب منها، أن هذه المناطق تقطنها كتل بشرية هائلة غالبيتها الساحقة من الشيعة. والسبب الآخر هو، شعور العراقيين الشيعة، أو بالأحرى قناعتهم، تاريخيا، بالظلم والتهمميش. وقد تعمق هذا الشعور خلال فترة الحكم الملكي. ولهذا، فأن الحزب الشيوعي لاقى دعما كبيرا حتى داخل المدن المقدسة، كالنجف وكربلاء والكاظمية، وامتد نشاطه فوصل إلى "الجيوب" الشيعية الواقعة في المناطق السنية، كمدينة بلد والدجيل. ولكن نشاط الحزب الشيوعي لم يقتصر على المناطق الشيعية، فحسب، وإنما كان متواجدا، وأحيانا بكثافة، في المنطقة الغربية، أو ما تسمى في لغة الأعلام الآن، "المثلث السني". فقد كان الحزب ناشطا في مدن تكريت /يقال أن أول عملية قتل مارسها صدام حسين هي، قتل فلاح شيوعي من مدينة تكريت/ وسامراء والفلوجة وكركوك والموصل وديالى، مثلما كان ناشطا، أيضا، في المنطقة الكوردية ولدى المسيحيين والصابئة.


"عراقية" الزعيم قاسم، و"عراقية" الحزب الشيوعي ألبت عليهما أصحاب الذهنية الانعزالية الطائفية، خصوصا داخل المؤسسة العسكرية، وريثة "الكوتا" الطائفية، وحاملة لوائها والحارسة لها. وفي مسعى من هولاء للتشهير بقاسم، فإنهم روجوا أن قاسم "مجنون"، وقالوا فيما بعد أنهم كانوا، قبل ثورة تموز، يطلقون على قاسم تسمية "قاسم جنية". أما الحزب الشيوعي، فلم يكن أمامهم سوى دغدغة عواطف الناس وتأليبهم ضده، أخذين بنظر الاعتبار أن أكثرية العراقيين مسلمون، فأشاعوا مقولة "الشيوعية كفر والحاد. وهي نفس التهمة التي تطلقها قوى المعارضة المسلحة، في الوقت الحاضر، على الأحزاب الشيعية السياسية الحاكمة، وقولها أنهم "روافض". وبالطبع، فأن مطلقي هذه التهم يعرفون أنها غير صحيحة. فالشيعة هم مسلمون، شأنهم شأن أصحاب المذاهب الإسلامية الأخرى. والحزب الشيوعي لم يعرف عنه منذ تأسيسه، ترويجه للكفر والإلحاد. وحتى لو كانت هذه التهمة صحيحة/ أقول لو/، فأن الحزب الشيوعي ليس من الغباء بحيث يروج لها، لأنها تقوده، ببساطة، إلى الانتحار السياسي. وكان الحزب الشيوعي من الذكاء والواقعية بحيث أنه كان يساهم، مباشرة بعد ثورة تموز، في إقامة المناسبات الدينية، خصوصا الشيعية، في مقرات المنظمات المهنية التابعة له. وقد شاعت وقتذاك أملوحة تقول: هل تذهب إلى حسينية الحزب الشيوعي العراقي ؟ كناية عن مقرات الشبيبة الديمقراطية التي كان الحزب يقيم فيها المناسبات الدينية.
لقد كان الصراع وقتذاك ينحى منحيين. قاسم والشيوعيون كانوا يريدون السير قدما في تجاوز الخطوط الحمر، ومنح جميع العراقيين فرصا متساوية، والتعامل مع العراقيين كشعب واحد، مع التأكيد، خصوصا من قبل الشيوعيين، على خصوصية الوضع في منطقة كوردستان /شعارهم الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكوردستان/. وفي الجهة المقابلة كان زعماء المؤسسة العسكرية، ولا يهم أن الكثير منهم ساهم في ثورة 14 تموز، كانوا يريدون الحفاظ على "كوتا" وزارة عبد الرحمن النقيب التي تشكلت، كما ذكرنا عام 1925.
لهذا السبب، فأن قادة المؤسسة العسكرية ألقوا بكل ثقلهم وراء حزب البعث، رغم أنهم يعرفون أن رؤاهم لا تتفق مع رؤيا هذا الحزب. كان حزب البعث، شأنه شأن الأحزاب العلمانية العراقية الأخرى، يضم في صفوفه العرب الشيعة والسنة. وكانت القيادة القطرية التي وصلت إلى السلطة في 8 شباط 1963، تضم في صفوفها شيعة وسنة. بل أن مؤسس فرع الحزب في العراق، فؤاد الركابي، ينتمي إلى واحدة من القبائل العربية الشيعية الضاربة في العراق. هذه التركيبة الحزبية "العراقية" التي وصلت إلى السلطة بعد 8 شباط 1963، على أنقاض التركيبة "العراقية" التي سبقتها، والتي، يا للمفارقة، دمرتها بطريقة دموية، لم تجد قبولا من لدن قادة المؤسسة العسكرية، وريثة وزارة النقيب الأولى "العثمانية"، وفي المقدمة عبد السلام عارف. إذ ينقل المؤرخون عن عارف قوله، عندما كان يصل أعضاء القيادة القطرية الشيعة للاجتماعات الوزارية وقتذاك، قوله: وصل الروافض. ربما كان عارف يمزح، لكنه كان ينطق الحقيقية، حقيقته هو، أو "حقيقة" "كوتا" وزارة النقيب الأولى. في الواقع، كان عارف ينطق، عندما يقول ذلك، بأسم المؤسسة العسكرية. وبموازاة تفكير عارف الأنعزالي، كان الفريق طاهر يحيى يلقي "محاضرة" على الكورد العراقيين، عندما أصبح رئيسا للوزراء في حقبة حكم الأخوين عارف، ليقول لهم أنهم "من أصل عربي".
لقد كان زعماء المؤسسة العسكرية يجدون صعوبة في التأقلم مع أفكار حزب البعث، وهم يشتركون معه في السلطة. والعكس صحيح، أيضا. فقد حاول حزب البعث، رغم الدموية التي طبعت فترة حكمه بعد وصوله إلى السلطة في شباط 1963، أن يطيح، هو أيضا، بالتوازنات التي تأسست عليها الدولة العراقية الحديثة، بينما كان قادة المؤسسة العسكرية ميالين للحفاظ على تلك التوازنات. وعندما سنحت أول فرصة أمام قادة المؤسسة العسكرية، فأنهم تخلصوا من أندادهم البعثيين، في 18 تشرين عام 1963. وليس صدفة أن يشهد حزب البعث، بعد ذلك التاريخ، انشقاقات واسعة قادت إلى خروج غالبية قياداته منه، ولجوء بعضهم، لاحقا، للتبرؤ من الحزب، ونقد تجربتهم في الحكم، عن طريق نشرهم لبعض الكتب، أو عن طريق تصريحاتهم في المحافل العامة والخاصة. ولكن هذا النقد الذاتي، أو هذه المراجعة التجريحية، أو جلد الذات، لم يقم بها القادة العسكريون الذين شاركوا البعث في الحكم.
وخلال حكم الأخوين عارف، وبعد ذلك حكم صدام حسين، فأن العراق لم يشهد تلك الأضطرابات التي شهدها خلال السنوات التي أعقبت ثورة تموز. والسبب في ذلك هو "عودة الأمور إلى نصابها"، أي عدم المس بالخطوط الحمراء المتمثلة في توازنات حكومة عبد الرحمن النقيب الأولى.
لكن تلك التوازنات تم تهشيمها بعد 9 نيسان عام 2003. ولكن هذه المرة تهشمت بشكل جذري، عندما ألغيت المؤسسة العسكرية التقليدية القديمة، الحارسة لتلك التوازنات. أي، أن ما عجزت ثورة 14 تموز عن تحقيقه، تحقق في 9 نيسان عام 2003. ولهذا، فأن ردود الفعل التي أعقبت ما حدث في 9 نيسان عام 2003، اتسمت بعنف شديد، وطغى تصلب المواقف على جميع اللاعبين، سواء في السلطة أو خارجها.
لكن الفارق كبير جدا بين ما كانت تطمح إليه ثورة 14 تموز عام 1958، وبين ما حدث بعد التاسع من نيسان عام 2003. ما كانت تطمح ثورة تموز إلى تحقيقه، وقد حققت منه شيئا كثيرا، مقارنة بعمرها الزمني القصير، هو إعادة تشكيل الدولة العراقية من جديد، ولكن ليس وفقا لأي محاصصة، وإنما وفقا لروح المواطنة. كان الزعيم قاسم، وفي آن واحد، يفتتح بنفسه كنيسة للعراقيين المسيحيين في قلب العاصمة العراقية، ويقبل بتعيين الصابئي الدكتور عبد الجبار عبد الله رئيسا لأهم صرح ثقافي "جامعة بغداد"، ولا يعترض على ترشيح الدكتور عبد الستار الجواري لهذا المنصب، ويعود المرجع الديني آية الله الحكيم في مستشفاه، ويقبل بتوزير أمرأة، لتصبح أول وزيرة في تاريخ العراق، ويشرف بنفسه على بناء مدينة الثورة لتكون مدينة عصرية للفقراء، ويفتتح مهرجان الكندي، ليعيد الاعتبار لإنجازات الحضارة العربية الإسلامية ويفتح الطريق للتقدم الحضاري، ويستقبل الزعيم الكوردي ملا مصطفى البرزاني من منفاه، ويوقع على قانون رقم 80 ويفاوض شركات النفط لتصحيح ميزان العلاقة لصالح العراق، ويعد بأجراء انتخابات ديمقراطية وسن دستور دائم، ويعفي عن الذين حاولوا قتله، مدفوعا بفلسفته القائلة "الرحمة فوق القانون".
وهذه الإنجازات كانت تحظى بقبول غالبية العراقيين، على اختلاف طوائفهم وأعراقهم ودياناتهم ومناطقهم، بل وحتى مواقعهم الطبقية، لكنها ما كانت تجد قبولا لدى حاملي ذهنية "الكوتا".
كانت ثورة 14 تموز 1958 رائدة في أمور كثيرة، أهمها أن يكون العراق للعراقيين، لجميع العراقيين دون استثناء، وأن يكون عراقا عادلا، متحضرا، متسامحا، متوازنا، وديمقراطيا.