على امتداد سنتين ما انفكت الأحزاب السياسية الإسلامية الشيعية تؤكد بأنها ليست أحزاباً طائفية. وصدقهم البعض، رغم علم الناس بأن هذه الأحزاب لم تنشأ إلا على أساس مذهبي سياسي أو طائفي. حتى بعد تشكيل قائمة الائتلاف الوطني الموحد كان البعض يريد أن يعتقد بأن هذه القوى الإسلامية السياسية الشيعية ليست طائفية، بل هي عراقية إسلامية فقط. وحسب قناعتي تورط بعض الناس العلمانيين بدخول هذه القائمة أو كانت لهم حساباتهم الخاصة التي لا أجد مبرراً لخوضها الآن، خاصة وأن هذا العقد يمكن أن ينفرط في كل لحظة، والعراق على أبواب انتخابات جديدة .
كما ما انفكت هيئة علماء المسلمين، التي نادت بوحدة المسلمين وهللت لمقتدى الصدر الشيعي لأنه مارس وجماعته وميليشياته العنف والإرهاب في العراق وانسجم مع اتجاهها في ممارسة العنف في العراق، ولكنها تصرفت حتى يومنا هذا على أساس طائفي صارخ، ولم تطرح، في ما عدا تلك النداءات، إلا أفكاراً وأهدافاً طائفية لا تختلف عن مثيلاتها من قوى الإسلام السياسي الشيعية.
واليوم كشف السيد عبد العزيز الحكيم عن ورقته الأساسية ورفع الحجاب عما لم يكن سراً على العارفين ببواطن الأمور وكان سراً على الناس البسطاء أو الطائفيين، وهو الذي أعلن عن فوز قائمته الساحق في الانتخابات الأخيرة. لقد كشف الرجل عن وجه حزبه الطائفي السياسي حين أكد ضرورة إقامة فيدرالية شيعية تتكون من تسع محافظات في الوسط والجنوب وإبعاد المحافظات العراقية العربية الأخرى التي أغلبية سكانها من أتباع المذهب السني، إضافة إلى إبعاد بغداد وكركوك. فهل يفترض فينا أن نقبل بمثل هذه السياسة الخرقاء التي تعني أيضاً القبول بإقامة فيدرالية سنية يجوارها تتكون من أربع محافظات؟ إن على العقلاء من الناس أن يتحركوا لينقذوا العراق من هذه التقسيم الطائفي السياسي. فلو كان الرجل قد اكتفى بالقول بضرورة تشكيل فيدراليات ثلاث أو أربع على أساس التقارب في ما بين المحافظات، لهان الأمر كثيراً ولفكر الحكماء بمدى ضرورة وسلامة مثل ذلك. ولكنه أكد أنه يريد فيدرالية شيعية لتسع محافظات، وجاء ابنه السياسي الشاب السيد عمار الحكيم ليؤكد تماماً ويبرر ما ذهب إليه والده.
وعلينا الآن أن نتتبع ونلاحظ الظاهرة التالية:
•توجه الدكتور إبراهيم الجعفري، رئيس الوزراء، لزيارة السيد علي السيستاني. وبعد أن خرج من عنده صرح بأن السيد السيستاني يبارك الانتخابات على أساس الدوائر الانتخابية وليس الانتخابات النسبية على مستوى العراق كله.
•توجه السيد عبد العزيز الحكيم لزيارة السيد السيستاني، وبعد أن خرج من عنده بفترة صرح بأنه يسعى إلى إقامة فيدرالية شيعية من تسع محافظات. وكان يريد أن يوحي بأن السيد يؤيد هذه الفكرة الحزينة.
فهل حقاً تواصل المرجعية الدينية الشيعية التدخل في السياسة بهذه القوة وبهذا الصيغة التي لا يمكن القبول بها؟ إننا أمام ظاهرة جديدة علينا أن نتصدى لها ونفشلها بكل السبل الديمقراطية الممكنة ظاهرة أخذ المباركة والتأييد على صيغة فتوى غير مباشرة من السيد السيستاني لفرض مرشد جديد للجمهورية العراقية على غرار مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية السيد علي خامنئي.
قبل أكثر من ستة شهور طرحت فكرة كانت تراود الملايين من بنات وأبناء الشعب العراقي في الداخل والخارج مفادها أن الوقت مبكر جداً لوضع دستور جديد للعراق، إذ أن وضع وإقرار الدستور العراقي الجديد بحاجة إلى فترة زمنية مناسبة يستعيد الشعب فيها أنفاسه وتوازنه المفقود ويتخلص من الخراب النفسي الداخلي الذي يعاني منه والذي تسببت به سياسات النظام الاستبدادي المخلوع، وبسبب الفوضى التي سادت الساحة الفكرية والسياسية العراقية منذ سقوط النظام حتى الوقت الحاضر، إضافة إلى الإرهاب الدموي الذي ما يزال يعيق تحرك القوى السياسة والمثقفون والإعلام الديمقراطي بصورة معقولة ومقبولة ليتصدى لتلك الموضوعات البائسة فكرياً التي تريد تقسيم العرب إلى مذهبيين متصارعين، معتبرين النظام السابق نظاماً سنياً سلط الإرهاب على الشيعة أكثر مما سلطه على السنة، وكأن الكرد ليسوا من أتباع المذهب السني أيضاً، وبالتالي يريد البعض من هؤلاء أن يتمتع بحريته بحجة الخلاص من الطائفية. لم يكن صدام ممثلاً للعرب السنة، لقد كان دكتاتوراً وعنصرياً حاقداً، ولم ينطلق في موقفه على أساس مذهبي بقدر ما انطلق من كونه مستبداً يكره ويحقد وينتقم من كل إنسان يعارض سياساته. وعلينا أن لا ننسى أن عدداً غير قليل من أقطاب حكمه كان من الشيعة، وأنه سلط القمع على جمهرة كبيرة من أتباع المذهب السني من المواطنات والمواطنين أيضاً.
يبدو لي، وقد كتبت عن ذلك أيضاًً، إن الفكرة الأكثر صواباً وسلامة هي إقامة فيدراليتين في العراق: فيدرالية كردستان وفيدرالية وادي الرافدين، الأولى تضم الشعب الكردي والتركمان والكلد أشور سريان، وجمهرة من العرب والأرمن، في حين تضم الفيدرالية الأخرى الشعب العربي والكرد الفيلية وجمهرة من مختلف القوميات الأخرى. ومن هاتين الاتحاديتين تتشكل الجمهورية العراقية الاتحادية التي تستند إلى مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية وتمارس سياسة الود والصداقة مع الشعوب والدول الأخرى.
يفترض في مجتمعنا والقوى السياسية العراقية أن تعمل من أجل إبعاد الدولة الجديدة عن الهيمنة على الدين وعلماء الدين واستخدام الدين لتحقيق مصالح الحكام من جهة، وإبعاد الدولة عن هيمنة الدين وعلماء الدين عليها من جهة ثانية، إذ أن هذا التوجه المدني يعتبر الضمانة الفعلية لتمتع العراقيات والعراقيين من مختلف القوميات والأديان والمذاهب بحريتهم التامة وحقوقهم الأساسية.
إن على السادة في الأحزاب الإسلامية السياسية أن يدركوا بأن الصراع الرئيسي الراهن يدور بين القوى الإرهابية من أتباع النظام المخلوع وجماعة الزرقاوي التكفيرية وأنصار الإسلام وغيرها من المنظمات التي تمارس العنف من جهة، وبين الشعب العراقي وقواه السياسية الوطنية بأغلبيته من جهة أخرى. وأن أي إضعاف لهذا الصراع من خلال طرح صراعات أخرى سيؤدي إلى استمرار الإرهاب وسقوط المزيد من الضحايا والخسائر المادية والمشكلات.
لو تابعنا مسيرة السيد الراحل محمد باقر الحكيم لوجدنا أنه في الخطب الأخيرة قبل استشهاده على أيدي الإرهابيين الأوباش في النجف لوجدنا أنه كان يتحدث عن المجتمع المدني وعن الديمقراطية، فهل تخلى أخيه عن هذه الأفكار التي التزم بها السيد محمد باقر الحكيم؟ يبدو ذلك من خلال دعوته الغريبة جداً في إقامة فيدرالية شيعية في العراق والتي تعني بدورها القبول بفدرالية سنية، وهي المسألة التي ستقود إلى عواقب وخيمة على العراق من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والدينية والسياسية. أملي أن تتصدى للسيد الحكيم الذي ما يزال يتحرك على أساس فوزه الساحق والذي لن يدوم له طويلاً حقاً ما دام يسير السيد الحكيم على هذا الدرب الخطر.
إن على القوى الديمقراطية العراقية بكل أطيافها أن تدرك ما يراد بالعراق بمثل هذه الطروحات التي سوف تتسبب بخلق مشكلات إضافية للعراق تضاف إلى مشكلاته الراهنة، وسيستفيد منها أعداء الشعب العراقي في كل الأحوال، ولن يكون الخاسر سوى الشعب العراقي.