تشكل قضية التطبيع مع اسرائيل قضية غاية في الحساسية والأهتمام من الحكومات العربية ومن العلام العربي، لذا تلجأ عدد من الحكومات الى مد الجسور السرية مع الدولة العبرية بعيداً عن الأضواء ودون ضجيج، واذا ما تسرب خيط من المعلومات بادرت تلك الدول الى نفي المعلومة والى حلف اغلظ الأيمان بعدم ارتكابها تلك المعصية العربية.
ويمكن للمتابع ان يقرأ المبادرة التي أطلقها الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة في الستينات من القرن الماضي بأنها دعوة صريحة وجريئة للتعامل مع اسرائيل، وحلا واقعياً ومنطقياً لحل القضية الفلسطينية، غير انها لم تكن بتوقيتها المعقول ولم تكن الجماهير حينها تستطيع ان تفرز المواقف العاطفية من المواقف العملية، كما كان لمبادرة الرئيس الراحل أنور السادات نفس الأثر حين راح ضحية موقفه الصريح في التعامل والتطبيع والأعتراف بأسرائيل وهو ماتلتزم به الحكومة المصرية اليوم.
أن المنهج الأعلامي في ملاحقة عمليات المصافحة وتبادل التحيات والسلام بين المسؤولين العرب والإسرائيليين، يمثل قمة السذاجة والأزدواجية السياسية.
فقد اعلنت وسائل الأعلام من واشنطن في 13 ايلول/سبتمبر 1993 لتشهد عملية مصافحة تاريخية بين زعيم منظمة التحرير الفلسطينية الراحل ياسر عرفات ورئيس الوزراء الاسرائيلي العمالي اسحق رابين. أذ بعد ستة اشهر من المفاوضات السرية في العاصمة النرويجية، تبادلت اسرائيل والفلسطينيون الاعتراف ووقعوا في حديقة البيت الابيض اعلان مبادئ حول حكم ذاتي لقيام دولة فلسطينية.
أن هذا اللقاء لم يكن يخلو من مصافحات وعناق دون ان تشتعل الصحف والفضائيات العربية ناراً أو تخلق الضجة المفتعلة، بل العكس جرى التهليل لمشروع السلام بالرغم من وجود معارضين حقيقيين له، وبصرف النظر عن جسامة التنازلات الفلسطينية التي بذلت، غير ان النتيجة لم تكن بالسهلة مع ما رافقها من أحداث وشروخ في الجسد
الفلسطيني، كان المواطن الفلسطيني البائس حطب وقودها. وكثيراً ما التقطت الكاميرات لقطات المصافحة والعناق » بين شارون و«أبو مازن الرئيس الفلسطيني لاحقاً تحت عناوين «الأمل» التي تضعها الصحف كعناوين لموضوعاتها الأساسية وأخبارها في النشرات المتلفزة.
اللافت للنظر أن احداً من الأعلاميين لم يخون القيادة الفلسطينية ولا أعتبرهم من عملاء الموساد والصهيونية العالمية، ولاسعى لمسائلتهم برلمانيا، ولم يتم تحليل اسباب المصافحات والسلام الجاري بينهما سعيا لترتيب أتفاقيات السلام في فلسطين بعد ان تيقن الفلسطينيون أنهم مجرد الشماعة التي تعلق عليها السلطات العربية أخطاؤها وترديها في الأداء، وبعد ان تأكد الفلسطينيون عقم نظرية الكفاح المسلح لتحرير وطنهم بعد خذلانهم من قبل الحكومات العربية التي لم تعد هي بالتالي قادرة على حماية جيوشها وبلادها، وبعد ان تأكد اهل فلسطين أن مجرد الوهم والشعارات الدياغوغية لاتحرر بلدهم ولاتمنحهم أي شكل من اشكال السلطة حتى يقول الله امراً كان مفعولاً، فرضخت قياداتهم للأمر الواقع من اجل قيام دولة فلسطينية تسعى لأن تكون عاصمتها القدس، بعد صراع وتضحيات مريرة قدمتها الجماهير الفلسطينية بمساعدة الجماهير العربية.

وتشكل العلاقات الأسرائيلية – القطرية أسلوباً في المخاتلة والأبتعاد عن الأضواء ومحاولة توظيف امكانية فضائية الجزيرة التابعة للحكومة القطرية للتطويع والتطبيع ودفع الشبهات، ومن يستمع الى اقوال مقدمي البرامج وهم يصفون من يصافح الأسرائيليين بالخيانة العظمى وأنعدام الضمير والشرف، ومن يطالع البرامج المحفوظة التي تقدمها القناة القطرية وتستقدم من تراه متشنجاً في مواقفه أزاء ذلك الموقف، لن يستغرب أزاء الطرق التي تريد بها السلطة القطرية أن تصل الى النتيجة النهائية في الأعتراف الرسمي ( المرسوم لها سلفاً ) لدولة اسرائيل، فمن بوابة المركز التجاري الأسرائيلي ومن زيارات المسؤولين الأسرائليين لدولة قطرهم، ومن زيارات سرية يقوم بها مسؤولين رفيعو المستوى الى الدولة الإسرائيلية، مروراً بالتبرعات المالية السخية، وصولا لإعلان مسؤول اسرائيلي ان وزير الخارجية الاسرائيلي سيلفان شالوم التقى في نيويورك نظيره القطري الشيخ حمد بن جاسم بن جبر ال ثاني، في اول اتصال رسمي بين البلدين.
ان لقاءات بين البلدين حصلت ثماني مرات، فهذا اول لقاء "مفتوح ورسمي وعلني "، كما اكد المسؤول. وقبل اللقاء، لم يستبعد الوزير القطري امكانية اقامة علاقات ديبلوماسية كاملة مع اسرائيل، قبل انشاء الدولة الفلسطينية، واوضح المسؤول الاسرائيلي ان بلاده تسعى الى تنظيم لقاء قريب بين رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون وامير قطر الشيخ حمد بن خليفة ال ثاني، على هامش قمة الامم المتحدة في نيويورك. وبثت القنوات التلفزيونية التصريحات الجريئة للوزير القطري المدعوم من حاكم البلاد ازاء هذا الموقف. ومن يتابع هذه المواقف يستغرب اشد الأستغراب مما تثيره الدولة القطرية أزاء مصافحات الرؤوساء والمسؤولين العرب مع المسؤولين الإسرائيليين.

فقد أهتمت القناة الفضائية القطرية في قضية المصافحة بين رئيس الجزائر الانفتاحي عبد العزيز بو تفليقة وثعلب الدبلوماسية الإسرائيلية شمعون بيريز، وعجت صحف عربية كثيرة بصور اللقاء مشحونة بافتتاحيات لا عد ولا حصر كالت التهم والانتقادات لمخضرم الجزائر إن لم نقل العرب الدبلوماسي، والطبع ليس بو تفليقة هو الأول ولن يكون الأخيربمثل هذه المصافحة.
كما اهتمت القناة بقضية الأتهامات التي وجهت الى رئيس الوزراء العراقي المؤقت الدكتور اياد علاوي الى تقديم ايضاحات حول مصافحته وزير خارجية إسرائيل سليفان شالوم في الامم المتحدة اثناء حضوره جلسات الأمم المتحدة فيما أقر مجلس الوزراء العراقي إنشاء محكمة اتحادية لمراقبة دستورية القوانين وانسجام القرارات الرسمية مع الدستور.
كما كانت القناة نفسها قد أثارت زوبعة من التشكيكات والأتهامات حول تصريح وزير الخارجية الاسرائيلي سيلفان شالوم عن مصافحة الرئيس الاسرائيلي موشيه كاتساف الرئيس السوري بشار الاسد وحديثه الى الرئيس الايراني محمد خاتمي في روما عند حضورتشييع جثمان البابا.
أن اسلوب الشيزوفرينيا السياسية في الأنتقائية يجسد واقع الحال العربي، وحال الأعلام المتردي، والذي يحاول أيهام المواطن العربي وأعماء قدرته على تشخيص الخلل والخطأ، وحين تصير المصافحة وتبادل التحيات مواقف سياسية يتم البناء عليها، نستطيع ان ندرك مقدار التردي العام في السلوك الأعلامي المفترض ان يكتسب شيء من الصدق والثبات في الموقف على الأقل، ومن يتابع الأشارات التي تمنحها القنوات العربية والصفات التي تطلقها على الأرهابيين في العراق حين تصفهم بالمقاومين تارة وبالمقاتلين تارة، ترتد وتصفهم بالأرهابيين والمجرمين حين تكون الحوادث قريبة منها، الايعازات التي تتلقاها القناوات العربية من مموليها تستدعيالشفقة وتدلل على الرثاء لما صار عليه فكر العرب وتحليلاتهم ومواقفهم، وهو حال حقاً يدعو للتأمل والمعالجة السريعة أزاء التدهور الذي وصلته الأمة، فالتطبيع لايكون خلف الستائر ولاخلف الأبواب ولابعيداً عن معرفة الشعوب ورغم ارادتها، ويقينا ان المواقف الفلسطينية جديرة بالتقدير والأحترام حيث لم تكن تجري في الخفاء ووراء الضباب، ولم تكن تخفي شيء عن شعبها الفلسطيني، ولا بعيداً عن اعلامها وأحزابها ومكوناتها السياسية، فهل يمكن ان تكون المواقف العربية صادقة وصريحة وواضحة ازاء أكبر القضايا التي تعاني منها الأمة العربية، في مرحلة زمنية تعد من اخطر المراحل التي تعبر بها المنطقة الى منعطفات مختلفة.