"إذا كان البشر الطيبون يريدون العيش بأمن وسلام عليهم أن ينتظروا من الأشرار القيام بكل سوء ممكن" (الباحث غي مليير)

في أمسية جميلة قضيناها في ضيافة المخرج العراقي الطيب الفنان المسرحي صالح حسن فارس في منزله في أمستردام جرت أحاديث كثيرة في الفن والأدب والسياسة والفكر وهناك نقطتان أحببت الكتابة عنهما بعد تلك الأمسية لأهميتهما الكبيرة والتي تحتاج إلى التوضيح والتكرار لرسوخ الأفكار غير السليمة حولها.
النقطة الأولى محاولات الفصل بين التقدم التكنولوجي للحضارة الغربية عن التقدم الفكري والفلسفي وهي الفكرة السائدة لدى أغلب الناس وسيطرت حتى على الشخصيات الثقافية العربية والإسلامية في خمسينات وستينات القرن العشرين وايدتها شخصيات لها وزنها الثقافي كالدكتور علي شريعتي عالم الاجتماع الإيراني بيد أنها فكرة غير سليمة نبه إلى خللها عدة باحثين عرب معاصرين منهم الدكتور هاشم صالح والدكتور نصر حامد أبو زيد وغيرهم فالأرضية الفكرية الفلسفية السليمة هي ما تؤسس لتقدم علمي بالمعنى الصرف للكلمة ولا يمكن أن نعزلهما عن بعضهما بل أن الأرضية الفكرية الفلسفية قد تحسم حركة التأريخ كما في الأنتصار الليبرالي على التوليتاريا فالنصر الفكري مقدم على اي نصر آخر حققته الليبرالية ضد المعسكر الشيوعي على عكس من يُصرون على حصر حركته بالعامل الاقتصادي أو من يضيفون له السياسي ويتجاهلون العوامل الفكرية . فالتقدم الحضاري التكنولوجي الغربي هو نتيجة للتقدم الفكري الفلسفي ولا يصح الفصل بينهما كما يحلو لنا والمتابع لتأريخ أوربا منذ منتصف القرن الخامس عشر وحتى نهاية القرن الثامن عشر يعرف حجم المعارك الفكرية والفلسفية التي جرت هناك والتي صنعت النهضة الصناعية التي تأخرت عن النهضة الفكرية بمسافة زمنية - أنظر على سبيل المثال تشكل أوربا الحديثة للمؤرخ غيوفري تريغر - وهنا ينبه عدة باحثين عرب على ضرورة أن نعرف كمجتعمات عربية في اي زمن حضاري نعيش من حيث أرضيتنا الفكرية والاجتماعية القديمة ولكن المعاصرة للتقدم العلمي الذي نستورده فحضاريا نحن نعيش ذهنية القرن الثامن عشر - حسب راي شاكر النابلسي- وأظن شخصيا إننا نعيش ذهنية القرن السابع عشر- إن لم يكن ما قبله- وليس الثامن عشر وهذا ما يجعل الفجوة الحضارية بيننا وبين المجتمعات الغربية تمتد لثلاث أو أربع قرون كما يذكر الدكتور هاشم صالح والتي تحتاج إلى إشتغال فكري فلسفي وديني أولا قبل أن نفكر بعلوم الفلك والفضاء والهندسة الوراثية أو نزعم أن ابحاثنا الفكرية الفلسفية والدينية لا وزن لها لأننا نعيش زمن الإستنساخ وغزو الفضاء ولست أدري من هم النحن المعنيين هنا !! فمجتمعاتنا الطيبة غارقة إلى أذنيها بنماذج فكرية وأجتماعية قديمة أو في أطوار الأنتقال من البداوة إلى الحضارة حسب تعبير الدكتور شاكر النابلسي ومركز الحقوق في ذهنياتنا هو الله وليس الإنسان أي نحن نفتقر للنزعة الإنسانية - الهيومانزم - التي تضع الإنسان كمركز للحقوق بدلا من الإله في الذهنية اللاهوتية ولا يخفى أين تكون مجتمعاتنا من ذلك ولا ينفع أن نتجاهل ذلك أو نقفز عليه لنكتب عن المابعديات - ما بعد كذا وما بعد كذا -وكثيرا ما ابتسم عندما اقرأ لبعض المثقفين السعوديين وهم يتحدثون بملئ فيهم عن ما بعد الحداثة فلله درها من حداثة لديهم يودون الحديث عن تنظير لما بعدها!

النقطة الثانية التي اثيرت في الأمسية مخاطر الطائفية- بالتحديد الخصومةالشيعية السنية - في العراق والتخوفات من الأنجرار إلى حرب أهليه، وهي مخاوف مشروعة ولكن هل التغني بالوحدة سيداوي جرحا؟ وهل إنكار وجود طائفية معتقة في العراق سيلغيها ويعالجها ويغلق ملفها المكبوت ؟ فالخصومة بين الشيعة والسنة عريقة في تراثنا العربي الإسلامي بصورة عامة وفي موروثات العراق بشكل خاص وعدم ظهورها إلى العلن ما كان إلا لأنها مكبوتة في أحشاء العراق الذي بدأ يقذف بها إلى الخارج ألان فالعقد الملجومة والمكبوتة لوجود سلطة مركزية قوية تزداد قيحا ولا تندثر وبمجرد أن تضعف السلطة المركزية أو تنهار تنفلت تلك العقد من عقالها كما يحدث في العراق ولولا وجود القوات الأمريكية والبريطانية فيه وقوتها لأنساقت الطائفتين الشيعية والسنية إلى حرب وقتال بل ويمكن القول أنها موجودة على الساحة العراقية ولكن من طرف واحد - المتطرفين السلفيين -وعدم الأنجرار الشيعي عائد إلى عدة أسباب منها نشوة الوصول إلى الحكم وتشرذمهم ونحن لا زلنا نقرأ البيانات التي تحرض على قتلالرافضة وحديثنا عن الشيعة والسنة لأنها العقدة الأكثر خطرا - مشكلة قرون طويلة أنظر تأريخ الكامل لأبن الاثير والتواريخ التي تحدثت عن العثمانيين والصفويين على سبيل المثال لمحات اجتماعية من تأريخ العراق لعلي الوردي - مع أن مشكلة العراق مركبة ومعقدة لإنكفاء مكونات المجتمع العراقي إلى هوياتها الذاتية الضيقة: القبيلة ، الطائفة ، القومية ، الدين وما يتركب من هذه وتلك وهذه المشاكل غير المحلولة لا بد أن تظهر وتعبر عن نفسها فالمجتمعات تمرض وتعالج كما يمرض الإنسان ويعالج والعقد المرضية لا يمكن معالجتها بكتمانها أو التنكر لها بل بالإفصاح عنها ومن المعلوم أن الإنسان المصاب بعقدة مظلمة في نفسه لا يتخلص منها إلا بعد أن يعترف بها أولا ليعالجها ثانيا وكلما أقترب الإنسان من المناطق المحرقة في نفسه يبدي ممانعة كبيرة وإنكار لها خصوصا الأمور السرية التي لا يطلع عليها أحدا أبدا -مثال على ذلك في مجتمعاتنا العلاقات الجنسية الشاذة - وتتسبب له بأزمة حادة قد يخرج منها محطما أو سليما ومعافى والمجتمعات تقوم بذلك أيضا على نفس الوتيرة مع عقدها ومناطقها الحارقة والمظلمة في ذاكرتها ومع أمنياتنا بعدم وقوع حرب أهلية في العراق ولكن على فرض وقوعها فأنها ستكون لصالح العراق فالتقيحات إذا تفجرت تُشفى بعد نقاهة ولكن دثرها وكبتها يجعلها جمر تحت الرماد وفيروس يفتك بالبدن الاجتماعي ، نقول ذلك مع أن قبول ذلك يُعتبر أمرا صعبا على النفس والأعتراف به مرا ودور القوى الخارجية في تأجيج أو حل المشاكل المتفجرة قابل للنجاح والفشل والنجاح يرتبط بمدى قدرتها على معالجة الاسباب الكامنة وراء المشاكل كما يقول باتريك م. ريغان استاذ العلوم السياسية في جامعة بينغامتون بالولايات المتحدة الاميركية في دراسته عن الحروب الأهلية في العالم ومدى تأثير القوى الخارجية في نشوبها أو منعها والولايات المتحدة الأمريكية تمتلك مشروعا ضخما لإعادة رسم العالم ووضع منطقة الشرق الأوسط والعراق خاصة يقع في سلم أوليات هذا المشروع فكما يقول الباحث مايكل لودن( في نهاية الحرب وبعد التدخل في افغانستان و في العراق، وبعد عقدين أو اقل أو أكثر من الزمن ستتم اعادة رسم خارطة العالم من جديد وستستجد تحولات لم نشاهد حتى الان الا بعض ملامحها وهناك تحولات لا نستطيع حتى تصورها سوف تحصل) ولست أدري ما الذي تخفيه الولايات المتحدة لصناعة العراق الجديد ومجتمعه وهل ستعينه على معالجة عقده أم لا خصوصا مع أنتشار نزعة الشعارات بين العراقيين وتصفية الحسابات بين الأحزاب وتناسي المشكلات الحارقة التي يعانون منها وأخيرا سأردد عبارة تراثية لعالم عربي قديم هو ميمون بن مهران ( حسن المسألة نصف العلم ) أي لكي تحل مشكلة ما ينبغي أن تفهمها وتعرفها وتضعها في مجالها الصحيح .