رغم تمتعي بإجازة عائلية قضيتها على ضفاف النيل الخالد منذ أواخر العام الماضي إلا أنني لم أستطع وأنا هناك ومشغول بالكامل في حالة (الزحمة المصرية)! مقاومة إغراء متابعة وسائل الإعلام والأحداث الساخنة التي باتت تطرأ بين لحظة وأخرى! وتتسيد في عالمنا العربي المثقل بالملفات والهموم التاريخية العاجلة والمؤجلة؟، ولم أستطع بالتالي إلا التقيد بالمثل المصري الشهير : (يموت الزمار وأصابعه بتلعب)!!، وقد تابعت مواقف صحافة مصر (القومية) وكذلك صحف الأحزاب الأخرى من قضية تصريحات النائب السابق للرئيس السوري السيد عبد الحليم خدام، وهي التصريحات التي أثارت وما زالت عواصفا سياسية هائلة بما أتبعها من تحركات وما دار حولها من لغط؟ وما مثلته من توقيت حساس، أو ما عبرت عنه من مغزى و دوافع وأهداف ستراتيجية أو تكتيكية؟ فقد تبارى أهل الصحافة والقلم في مصر على النيل من مواقف السيد خدام، ولم يتورع البعض وهم الغالبية العظمى عن إتهامه بتهمة (الخيانة العظمى)!! لنظام كان هو أحد بناته وقادته وركائزه الأساسية طيلة أكثر من أربعة عقود وضعت سوريه خلالها في (محجر العزل الصحي)! وباشرت النظرية البعثية الإشتراكية الطائفية المريضة مهمة التشريح والقص واللزق بكل مكونات المجتمع السوري وبما أفرز في النهاية الحالة المرهقة الراهنة وهي النهاية الطبيعية والمعروفة لكل الأنظمة الإستبدادية المفلسة فكريا وسلوكيا وسياسيا، وقفز السيد عبد الحليم خدام من سفينة البعث السوري المثقوبة في محيطات السياسة الدولية ليست مجرد خطوة تكتيكية عابرة أو مصلحية قصيرة النظر لرجل كان ركنا من أركان النظام السياسي والستراتيجي والأمني والدبلوماسي السوري... إنه بالقطع أكبر من أي عملية إنشقاق سياسي محدودة، وأكبر من متغيرات عاجلة ومفاجئة تعودنا سياقاتها وسيناريوهاتها من الأنظمة الإستبدادية والعائلية الحزبية المغلقة؟، إنها شيء جديد ومختلف بالمرة ويعبر عن حقيقة سياسية جديدة قد بدأت بالتبلور والنضوج في الواقع السوري الجديد وهي حقيقة كسر الشعب السوري لجدران الخوف وتمرده على رهبة القمع الشامل، وتفتت النظام العسكري الطائفي العشائري من الداخل تفتتا منهجيا ملفتا للنظر سيجنب سوريه الكثير من الخضات والدماء والمصائب التي يتمناها لها أعدائها من المؤمنين بنظرية الحكم الشمولي والعائلي المطلق الفاسد، لقد أكد السيد خدام وقفة شجاعة وتاريخية ينبغي أن تتبناها قوى التغيير السورية التي تتحمل اليوم مسؤولية تاريخية مضاعفة في إنقاذ الشعب السوري من سيناريوهات الأنظمة العشائرية والطائفية البديلة وهي خطة إشعال الحرب الأهلية أو محاولة إثارة هواجس التاريخ المريضة المنقرضة أو تخرصات الجغرافيا العمياء، فلم يعد النظام السوري المفلس يملك من أوراق سوى ورقة اللجوء للعنف التدميري الشامل والرد بقسوة وتهور على الخصوم وعلى من يحاولون إنقاذ سوريه وشعبها من عبث (صبيان السلطة الوراثية) ودلع وتهور (أبناء القطط الطائفية السمان)!! وسوريه بشعبها وألقها وحضارتها وكينونتها الفكرية أكبر من أي طائفة أو ملة أو حزب، والتاريخ السوري العريق ليس ملعبا للصبيان أو للورثة المحظوظين لكي يقرروا مسيرته أو مصير الشعب السوري العريق، وما فعله السيد خدام في تقديري ليست مجرد حركة إنقلابية في الوقت الضائع أو محاولة للفرار من إستحقاقات لمسؤوليات تاريخية يتحمل هو شخصيا جانب كبير من المسؤولية فيها؟ كما أن السيد خدام ليس هو صهر صدام السابق حسين كامل المجيد ولا يوجد أي تشابه في الحالتين سوى في نفوس ورؤى بعض السطحيين، فتاريخ عبد الحليم أحمد خدام هو تاريخ البعث السوري الحديث وهو أحد القلائل من الرجال القلائل الذين إستطاعوا أن يحتفظوا برؤوسهم سليمة لأطول مدى ممكن وأن يتخلص بالتالي أيضا من قصة (الإنتحار وفاءا للحزب والأمة)!! التي حصلت مع قياديين كثيرين سابقين كان آخرهم اللواء (غازي كنعان) وزير الداخلية وأحد أهم المسؤولين عن الملف اللبناني والذي كان السيد خدام شخصيا هو أمين السر الأكبر فيه!!، ولعل ما تابعناه من ركاكة سياسية ساذجة ومضحكة من خلال تباري (نواب مجلس النظام السوري) في شتم وإهانة السيد خدام وأبنائه تعبير عن المهزلة الحقيقية لتلك العناصر التي رضيت لنفسها أن تكون (ملطشة) برلمانية بائسة! فهم اليوم يشتمون رجلا كان بالأمس القريب قياديا شامخا و أحد (المقدسات) في هرم السلطة والقيادة!!، لا بل أنهم يمتلكون المعلومات عن حالات فساد وتلويث بالنفايات النووية قيل أن أبناء خدام يتاجرون بها!! ولكنهم لم يعلنوها حينما كان أبو جمال في هرم السلطة؟ فأين مصلحة الشعب السوري إذن؟ وما كل تلك الكمية من النفاق العقيم والعظيم؟ وأي متعة يشعر بها (تنابلة السلطان) وهم يتحركون كالدمى ليحاولوا تضليل الشعب السوري والتشفي من جراحاته وعذاباته التاريخية، وقطعا فإن السيد عبد الحليم خدام ليس هو رجل المرحلة السورية القادمة لأنه قد إستهلك نفسه في سلطة البعث التي أجهزت على سوريه ولكونه أيضا أحد المنخرطين تاريخيا في الوصول بسوريه للمرحلة الراهنة، ولكن تحركاته تظل ذات مصداقية على مستوى متميز ولا أعتقد أن الرجل يطمح اليوم أو يتطلع لأدوار سياسية معينة فقد رشف من رحيق السلطة حتى إرتوى، كما دخل من الصراعات الداخلية والإقليمية حدا جعله يفضل لا محالة أجواء الهدوء والإعتزال والتقاعد بسلام ! رغم أن السياسي العربي لا يعرف التقاعد؟، فالمرحلة التاريخية القادمة في سوريه والعالم العربي هي مرحلة بناء شاقة لخرائب عربية تاريخية ومتوارثة ولعبة البناء أصعب بكثير من مهمة الهدم، فالبناء الجديد ينبغي أن يكون على أسس وجذور راسخة ومتينة لا تهزها الأحداث بينما عالمنا العربي ينام على حقول ألغام وفتن طائفية ومجتمعية وتاريخية مقلقة، ولعل أهمية تحركات السيد خدام من الناحية التاريخية الصرفة هي كونها تقدم خدمة معرفية ثمينة لطبيعة وآلية وتشريح أنظمة الدمار العشائرية والعائلية من الداخل! وهي مهمة ليست باليسيرة في طائفة عرفت بالباطنية والسرية والإنغلاق وفي سلطة موت معلن مارست تلك الباطنية وحاولت إحياء دولة (شيخ الجبل) وجيوش الحشاشين في أوائل القرن الحادي والعشرين!! إنها أزمة أنظمة الإستنساخ الجمهوري الوراثية والتي جاء (أبو جمال) ليطلق عليها رصاصة الرحمة... وكانت (ضربة معلم) بحق وحقيق!، فقد أعلن عبد الحليم خدام البيان التمهيدي الأول والحاسم لخروج نظام البعث من الواقع العربي.. ألم نقل لكم بأن عالما عربيا جديدا قد بات يتشكل اليوم رغم كل طفح الإرهاب وتحديات التخلف.. فوداعا غير مأسوف عليه لصبيان البعث النافق.
[email protected]