استعر السجال في العراق منذ انهيار النظام الديكتاتوري حول مسالة الموقف من البعث والبعثيين. وبدات عملية اجتثاث البعث كفكر يؤسس للعنصرية والشوفينية واعتماد القوة للتعامل مع المحكومين والمعارضة واصحاب الفكر الاخر. وبدات في هذه الايام جلسة الجمعية العمومية للبرلمان الاوربي في ستراسبورغ للبت بتقرير مثير للجدل يدعو الى ادانة الانظمة الشيوعية في اوروبا الشرقية واجتثاث بقايا العقيدة الشيوعية التي تجسدت هناك بصورة مشوهة والشطب على رموزها.

ان كل هذا يشكل دلالة واضحة على ان البشرية في الشرق وفي الغرب وقبلها في مناطق اخرى تقف على عتبة واحدة لتتجاوز نهائيا نمط من الانظمة السياسية الذي اصدر عليه التاريخ حكما قاسيا. ولن تشفع العقائد والايديولوجيات التي تذرعت بها تلك الانظمة لتحسين صورتها في التاريخ. فتلك الانظمة غدت تطبيقات سياسية لعقائد تزعم الانتماء لها. ولابد من المساهمة في البحث عن مكمن العطب في تلك التجارب التاريخية التي لم يبق العالم العربي عنها بمناى. وان كانت النظرية بريئة من التطبيقات التي مورست باسمها، ام انها التي خلقت الاجواء لها؟.وربطت تلك الانظمة نفسها ومازال انصار يصرون على ربطها بتسجيد احلام البشرية الازلية بالعدالة الاجتماعية والتحرر من ربقة العبودية والاستغلال وذلك باضفاء الطابع الاجتماعي على الانتاج بكل اشكالة.وينتقدون دون هوادة تجربة الانظمة الديمقراطية والفكر الليبرالي البديل.

ورغم اختلافات المنطلقات النظرية فيمكن العثور على قواسم مشتركة بين نظام حزب البعث في العراق والاحزاب الشيوعية التي اطلق عليها الانظمة الشمولية ومارست الحكم في اوربا الشرقية.والغريب ان الحزب الشيوعي الروسي الذي اقام علاقات مريبة مع النظام الديكتاتوري في العراق المباد، مازال يظهر التعاطف معه لحد اليوم.ويتباكى عليه وبات ببشر بفكر قومي بمسحة دينية/ارثذوكسية. ودون شك فان البعث استعار من الشيوعي الروسي فكرة تنظيمه الحزبي باقامة quot;حزب من طراز جديدquot; الذي استحدثه فلاديمير ايليتش لينين، ونظًَر له في كتابه الشهير quot; ماالعملquot; الذي استعار تسميته من كتاب بنفس العنوان للمفكر الثوري الروسي نيقولاي تشيرنشيفسكي.واثبتت التجارب التاريخية فقدان الانظمة والتنظيمات البعثية والشيوعية على حد السواء الاجواء الديمقراطية، وابقت مبدأ quot;الديمقراطية المركزيةquot; مجمدا، وان القرار فيها يظل حكرا على مجموعة في القيادة عادة ما تحتل مواقعها بطرق شبيه بالتامرية وبالاتفاقات الحلقية التي تتم ماوراء الكواليس.وبعد ان تفقد التنظيمات الاجواء الديمقراطية تفقد مصداقيتها السياسية وتخون واحد من اهم مبادئها وتبدا بالتعفن والنخور.وفي كلا الحالتين يفقد الفرد صوته وموقفه ليصبح رقما في اطار الكل:( نفذ ثم ناقش). ان الحزب من quot; الطراز الجديدquot; لايمكن ان يقوم على اسس ديمقراطية. انه اخطبوط خانق.فالنفس الديمقراطي مخنوق دائما.وتثير فيه الممارسة الحرة الشكوك.قد يساعد للوصول للسلطة ولكنه يفشل في ادارتها.
وتشترك تلك الانظمة فيما بينها ايضا بان اثارها غدت المقابر الجماعية ومعتقلات العمل التي تحولت في بعض البلدان الى متاحف لاتبعث كغيرها الفرح، وتركت عنها حكايات قريبة من حكايات الرعب.ومصائر محطمة لملايين الناس. وزرعت في ذهنية الشطر الاخر منهم روح العبد المقهور، الذي quot; يعيش بالخبز وحدهquot;.وحتى quot; الاهراماتquot; التي بنتها على هيئة مشاريع كبرى في مختلف المجالات، كانت على حساب الجماهير.

وهناك مظهر عام يجمع الطرفين يتمثل باحتكار الزعيم للسلطة وخصخصتها لها وفرض عبادته على الاخرين. ان الزعماء في تلك الانظمة الحزبية عادة ما يرحلون عن السلطة مع رحيلهم عن الحياة. والزعماء في هذه الانظمة الذين غادروا السلطة قبل موتهم ذهبوا على الاغلب مرغمين.ويصل الزعيم الحزبي للسلطة بانتخاب او ضربة حظ او مؤامرة قصر. ولكن لسان حاله يقول عادة quot; جئت لابقىquot;.ان الدراسات المستفيضة والمذكرات التي كتبها quot;الرفاقquot; بعد تقاعدهم تكشف عن وجود آلية مشتركة بين الجميع، تقوم على المكيدة والفرز لابعاد كل من يحمل بذاته مشروع الصراع على السلطة والقيادة في المستقبل او يشكل مركز ثقل او يوفر له ماضيه الحركي والحزبي مسوغات شرعية للادعاء بالقيادة. وهناك اساليب عديدة وطرائق مختلفة لبلوغ للايقاع بهم، من الابعاد والنفي للخارج بصفة سفير او ممثل للدولة او فرض الاقامة الجبرية او القتل بتهمة واهية او جليلة (الخيانة العظمى). هذه ممارسات شهدتها كل الدول التي سيطرت عليه quot; الاحزاب من الطراز الجديدquot;.والزعيم في تلك الانظمة هو القائد الملهم والمعلم والضرورة التاريخية واب الشعب وابنه البار او فارس الامة انه احيانا الجد والاخ القائد .وتصدر له كتب لم يشغل باله بموضوعاتها ولايتعب يده ليسطرها، فدائما ما يكلف كتبة ماجورين لتادية هذه المهمة. وتنهال الجوائز من كل حدب وصوب على تلك quot;الاعمال الفذةquot;وتعقد الندوات لدراستها والبحوث المكرسة لها، وتخرج الافلام بها.

وعادة ما تلجأ هذه الاحزاب وحتى قبل وصولها للسلطة الى مصادرة الحريات، خاصة الحريات التي تخلق الاجواء لنزعة المعارضة والوعي والتبصر.وعي الانسان بذاته. لاتُصادر حريات العمل السياسي المعارض واعلامه وحسب. تصادر حرية الشاعر وكاتب القصة والكاريكاتير والرسام بل وحتى الموسيقار والمخرج السينمائي.وتُصادر حرية التنقل والاقامة وسرد النُكتة، وتتخذ الاجراءات من اجل التضييق على السياحة وتعاد قراءة التاريخ وتوضع القواعد لتحديد الشخصيات غير المرغوب فيها. وتجند لهذه المهمة مؤسسات كثيرة ومتنوعة الاسماء والاشكال ومليشيات واتحادات ونقابات وكتبة تقارير ، لملاحقة الاخر، الغريب والمنشق.الحرية هي تنين هذه الاحزاب وانظمتها المرعبة.
والتفسير، ولااريد ان اقول التبرير واحد لسياسة تلك والانظمة انه الدفاع عن حقوق وشرائح وطبقات وامم وقوميات، ومد الطريق امامها لتصل للغد المشرق ووتنعم بالازدهار الاقتصادي.وتتفق على نفيها حرية الفرد الواحد. وتسمح بتضحية الفرد من اجل المجموع. بيد ان المجموع يظهر مفهوم غير واضح دون حدود ولاحقوق له، انها كتلة رمادية يمكن توجيهها لتحقيق quot;اهداف المرحلةquot;. ويقتصر حق وضع اهداف المرحلة على مجموعة مختارة.وتقدم بسخاء الضحايا التي تسقط على مذبح quot; المستقبل المشرقquot;. وتضحي بالحرية بذريعة سيادة العدالة. ولكن تجارب تلك الانظمة كشفت عن ان مواطنيها يتساون بالفقر والعوز، والتلهف لشم نسمة حياة طازجة.

ان التطورات الشاملة وانتشار ثورة المعلومات وسريان مظاهر العولمة والتغيرات الجيو ـ سياسة التي تعصف بالعالم لايمكن الا ان تترك اثارها على شكل النظام النظام السياسي ليتلائم مع تطلعات الانسان المشروعة بالحرية والحياة الكريمة. النظام الذي لن يزعم فيه الرئيس انه quot; ظل الله على الارضquot; بل موظف منتخب لتصريف شئون الدولة لفترة يحددها القانون. نظام يوازن بين الحرية والعدالة الاجتماعية وبين الفرد والجماعة.ويقدس حياة الانسان.يكون نفيا للانظمة االشمولية والدكتاتوريات القائمة على الحزب الواحد.