لعل أهم قضية شغلت منطقة الخليج العربي خلال العقود الأربعة المنصرمة هي قضية الحدود الكويتية/ العراقية التي كانت وعبر تاريخ المنطقة القريب مجالا حيويا لكل صور الصداع والتوتر الوطني والإقليمي بل أنها كانت الأساس والعامل الرئيس لحروب ومشاحنات لم تنته إفرازاتها ولا تداعياتها بعد !، كما كانت على الدوام مجالا خصبا لكل الساعين لدق أسافين الفرقة والتشتت والكراهية بين شعوب المنطقة وعلى وجه الخصوص شعبا العراق والكويت من الذين يتحملون الوزر الأكبر من نتائج تلكم الصراعات القديمة والمتجددة.
وقد تصاعدت في الآونة الأخيرة شكاوي رسمية كويتية عديدة من خروق و عدوان دائم ومسلح تقوم بها بعض الأطراف في الجانب العراقي، وهي شكاوي واقعية وصلت لحدود الإحتجاج الرسمي بين حكومتي البلدين؟ الشيء المؤكد هو أن هنالك إعتداءات مسلحة تحدث من الجانب العراقي بشكل متكرر ويكاد يكون روتيني من بعض المسلحين الذين لا يمكن أن يكونوا غرباء عن الساحة الميدانية لتواجد القوى والجماعات والأحزاب الطائفية والدينية المسلحة في الجنوب العراقي على وجه التحديد !، والشيء الأساس بل القاسم المشترك الأعظم لتلكم الإعتداءات تتلخص في ملف إبتزازي وتخريبي واضح المعالم لملفات نهب داخلية تتصارع عليها تلكم الأحزاب مع منافسيها من الجماعات الأخرى؟ أما الإتكاء على إتهامات للفلول البعثية فهو ضرب من السذاجة المطلقة ومن التفسيرات الغبية لحقائق الأمور وتجلياتها الميدانية، فلو كان للعصابات البعثية المسلحة كل هذه القدرة على الوصول لمنطقة حساسة ومحمية أمنيا كالحدود الكويتية/ العراقية ! لعنى ذلك الشيء الكثير؟ ولأطاح بثوابت ومسلمات ميدانية قائمة! فعصابات وبقايا البعث النافق قد شكلت فرقا للإغتيالات ولوضع القنابل في الساحات و الأسواق ولزمرة من الأعمال الجبانة الأخرى المعروفة بطابعها التخريبي المحض، وقضايا الهجمات الحدودية بعيدة عن فكر وأسلوب ومنهاج و إمكانيات تلكم العصابات؟.
فمن يقف خلف تلك الإعتداءات إذن؟ خصوصا وأن إنطلاقتها على الأغلب تتم من (البصرة) وهي المدينة التي تشهد اليوم إحتقانات علنية أو مكتومة من الصراعات وعمليات الإغتيال، والنهب بل والحرب المعلنة بين أمراء الطوائف ورؤساء العصابات الطائفية المسلحة أو الإجرامية العادية التي تورمت بشكل سرطاني رهيب في ظل الفساد الكبير والترهل الواسع في المؤسسة الأمنية العراقية والذي وصل لحدود خرافية من التخبط والفوضى، فبالأمس القريب لم يتورع محافظ البصرة ذاته (محمد الوائلي) عن إتهام شرطة محافظته بالسعي لقتله؟ وهو تصريح غريب ينم عن فوضى ضاربة في العمق المؤسساتي للدولة العراقية في الجنوب، وقبل عامين وخلال الصراع بين السلطة العراقية وعصابات مقتدى الصدر التي إحتلت مبنى المحافظة وقتها رأينا على الطبيعة رجال الشرطة العراقية وهم يلوحون ببنادقهم تأييدا وتعظيما للعصابات الصدرية وقائدها الأهوج الهمام بل ويشاركون بكل همة في مهمة إحتلال المحافظة! في أغرب منظر سوريالي لإنهيار سلطة دولة في التاريخ العربي الحديث؟ أما اليوم فإن الصراعات والتنافس بين الأحزاب الدينية التي تتحكم في مسار الحياة في الجنوب قد ألقى بظلاله لا على مجمل الحالة الأمنية بل على مجمل الوضع وتطوراته بكل ملفاته المعقدة في شمال الخليج العربي، فليس سرا تأكيد حقيقة إرتباط العديد من الأحزاب الدينية والطائفية بالجانب الإيراني تمويلا وإستخبارا وولاءا وكل شيء، والصراع بين جماعات الصدريين والبدريين (المجلس الأعلى للثورة الإيرانية في العراق).. يضاف لهم القوة المتزايدة عسكريا لحزب (الفضيلة) المهيمن على المحافظة لا بد أن تجد إنعكاساتها على منطقة الحدود مع الكويت والتي شكلت عبر كل محاور التاريخ العراقي القريب مجالا خصبا للإبتزاز بدءا من عام 1961، مرورا بأحداث (مخفر الصامتة) عام 1973 والإعتداءات العسكرية التي سبقته وتلته وصولا لجريمة الغزو التي أقدم عليها نظام صدام البائد لدولة الكويت عام 1990 والتي أتبعها بتغييرات للحدود الإدارية حتى أنه جعل من منطقة (المطلاع) الكويتية منطقة إدارية منفصلة أسماها (صدامية المطلاع) وألغى العنوان التاريخي المعروف لدولة الكويت ليسميها بمحافظة (النداء)!! وكانت تلك الأحداث واحدة من مهازل التاريخ البشعة ومن مآسي ملف العلاقات العراقية / الكويتية وهو ملف حافل بصور مفجعة من الكراهية الكامنة ومن كل عوامل وأسباب التوجس والتحسب، وهنالك نقطة مهمة ينبغي التأكيد عليها وتتمثل في وجود أطراف عراقية عديدة لم تزل تحمل الإرث الفاشي البعثي في المنهج والتفكير وحتى الممارسة فعقود التربية الفاشية والبعثية لم تزاح من النفوس أبدا بل أنها لم تزل تتفاعل في العراق المتوتر الحالي وفي ظل غياب حقيقي لمناهج التربية الوطنية والحضارية المستقبلية، فالنظام الفاشي البعثي قد تغير وسقط إلى الأبد ولكن تربيته وعقليته وبذوره السامة لم تزل متواجدة في المجتمع العراقي، و من الجانب الكويتي أيضا فإن هنالك أطراف معينة لا تحرص أبدا على تطوير العلاقة التفاعلية الحية مع العراق الجديد ولا زالت عبر منابرها الإعلامية تطرح أسئلة وتصورات ملغومة بالكامل وبما من شأنه إحياء كل عوامل وصور المرارة الماضية فمثلا عمدت إحدى الصحف الكويتية (الأنباء) عبر موقعها الإلكتروني لطرح تصويت ملغوم معروفه نواياه وأهدافه يقول : هل تقبل بأن تكون السفارة العراقية جارتك؟؟ و كانت النتيجة على طريقة قناة الجزيرة في الإحصاء برفض الغالبية العظمى من المشاركين لتلك الجيرة!! والسؤال كما ترون سؤالا أحمق!! فالسفارات لا تسكن في الأحياء الشعبية بل في المناطق الخاصة بالبعثات الدبلوماسية وتكون محمية؟ إذن ما هو الهدف من السؤال سوى الرغبة في إحياء مرارات الماضي وعقده الرهيبة والتي نتمنى أن تطوى وإلى الأبد، ويجب التذكير أيضا بأن صحيفة (الأنباء) الكويتية ما غيرها هي صاحبة الدعاء الشهير : بأن لا يبقي الله حجرا على حجر في العراق!!، وتلك صفحات مزعجة تم تجاوزها، أما ملف الحدود من ناحية التخطيط قد تم حسمه أمميا وإنتهى كل الجدل حوله، أما الحكومة العراقية الحالية أو القادمة فهي لا يمكن لها أبدا أن تقف موقف العداء للكويت لسبب بسيط يتمثل في كون الكويت هي بوابة التحرير و الخلاص من النظام البعثي البائد، كما أنه ليس للكويت أي هدف سلبي أو أطماع هيمنة تريد تحقيقها في العراق، ولكن النفطة الجوهرية لحسم الموقف وإلجام كل أصحاب النوايا الشريرة هو مسؤولية الحكومة العراقية في حسم الملف الأمني والسيطرة الكاملة على الحدود وإنهاء هيمنة الميليشيات المسلحة بالكامل، فلا سلاح إلا للدولة وحدها، بعد ذلك يتم الحديث عن أية خروقات قد تحدث؟ أما والعصابات الطائفية في الجنوب العراقي تسرح وتمرح كما هو الحال اليوم فلا أمن ولا أمان لأحد؟.. تلك هي الحقيقة العارية.

[email protected]