عادة لا أحبّذ أن أكون موضوعًا لمقابلة صحفيّة، والسّبب هو أنّ المرء يحرق من وقته ساعات وساعات في اللّقاءات، ويدور الحديث حول أمور كثيرة، ثمّ يأتي يوم نشر المقابلة فيتبيّن له أنّ أمورًا كثيرة عرضها على مسمع من الصحفي أو الصحفيّة فتغيّرت لهجتها أو أخرجت من سياقها، ناهيك عن أمور لم يقلها فيجد أنّها منسوبة إليه، أو أمور قالها فلا ترى النّور. لقد رفضت في الماضي طلبات كثيرة لإجراء مقابلات صحفيّة معي لهذه الأسباب ولأسباب أخرى. إذ أنّي في نهاية المطاف أفضّل كتابة مقالة، فعلى الأقلّ يكون المرء في الكتابة عارفًا عالمًا بما يكتب، ومن ثمّ يكون مسؤولاً عمّا يفكّر به ويكتبه.

***
غير أنّي شذذت عن عادتي هذا الشّهر وقبلت لقاء صحفيّة من صحيفة quot;هآرتسquot;، الصحيفة الإسرائيليّة العبريّة الرصينة. وكما هو معتاد في لقاءات من هذا النّوع، فقد طال الحديث وقد استغرقت المقابلة ثلاثة لقاءات، إضافة إلى العديد من المكالمات الهاتفيّة والإيميلات. لقد تحدّثنا كثيرًا وفي أمور شتّى، من الثّقافي إلى السّياسي وانتهاءً بكلّ ما يشغل بال النّاس في هذه البقعة من الأرض الّتي لم تهدأ طوال العقود الأخيرة. ولمّا كانت المقابلة الصّحفيّة مخصّصة لملحق الصّحيفة الخاص برأس السّنة العبريّة، فقد استضافت الصّحيفة شخصيّات إسرائيليّة تحاول من خلالها استشراف تصوّراتهم لما يرونه الحال المثلى للحياة في هذه البلاد.

***
ولتعميم الفائدة على القرّاء العرب، هاكم الآن بعض الأفكار الّتي كنت عرضتها في اللقاء الصّحفي في الصّحيفة العبريّة:

أوّلاً: لقد اقترحت أن يتمّ تبنّي اسم جديد للبلاد، بدل الاسم إسرائيل، وقد اقترحت أن نطلق على البلاد اسم quot;هوملاندquot;. لقد اقترحت هذا الاسم لكي نقطع الطّريق على النّزاع والتّخاصم منذ البدء، فكلّ اقتراح آخر قد يكون مشحونًا بشيء من عند طرف من الأطراف فيبدأ النّزاع منذ البداية على الاسم. ولمّا كنّا نريد إنهاء النّزاع وإخماده وليس المضيّ في تسعير لهيبه، فقد اقترحت أن يكون الاسم غير مشحون بأيّ تراث لأيّ فرد. ولذلك فإنّ اسم quot;هوملاندquot; قد يكون مقبولاً على الجميع فيصبح النّاس هنا، من أصول وإثنيّات مختلفة عربًا ويهودًا وآخرين يعيشون معنا في هذه البقعة، quot;هوملانديّينquot; وquot;هوملانديّاتquot; على قدم المساواة في جميع المجالات.

ثانيًا: إنّ دولة quot;هوملاندquot; الجديدة المقترحة لا تقبل التّمترس في الماضي بأيّ حال من الأحوال، إذ أنّ جلّ اهتمام البلد الجديد سينصبّ على مستقبل المواطنين الهوملانديّين ورفاهيتهم. تجدر الإشارة إلى أنّه من كثرة المواضي في هذا المكان، فإنّنا لا نستطيع رؤية المستقبل. ومن الملاحظ أنّ ثمّ تشديدًا في اليهوديّة والإسلام على أهميّة التذكّر، إذ تتكرّر المفردات الّتي تفيد التّذكّر كثيرًا في تعاليمهما وتراثهما. إنّّنا في هذا البلد الجديد، على عكس ذلك، نريد إشاعة فضيلة النّسيان بين المواطنين. ولا نعني بفضيلة النّسيان، أن ندعو إلى محو الذّاكرة الشخصيّة، وإنّما ندعو إلى بدء رحلة مشتركة بكلّ ما نملكه الآن نحو المستقبلquot;.

ثالثًا: لن يكون في البلد الجديد رئيس حكومة، بل سيتمّ انتخاب رئيس للشعب، وستكون صلاحياته محدودة للغاية. إذ أنّ صلاحيات الرئيس ستقتصر على جمع القمامة من الشوارع، شقّ الطرق، وبناء المدارس وما شابه ذلك. أي أنّ صلاحياته ستكون أشبه بصلاحيات رئيس بلديّة في مدينة كبيرة.

رابعًا: سيكون هنالك شيء شبيه ببرلمان وسيسمّى بيت الشعب، غير أنّه سيكون مبنيًّا على أسس علمانيّة. ولهذا الغرض، سيتمّ في البلد الجديد وضع دستور يرتكز على مبدأ فصل الدّين عن الدّولة بصورة تامّة. كما أنّه لن يُسمح لأيّ شعائر دينيّة علنيّة بأن تُقام في الحيّز العام، لا يهوديّة، ولا مسيحيّة ولا إسلاميّة ولا أيّ شيء من هذا القبيل. ولذلك سيتمّ أيضًا حظر قيام أحزاب على أسس دينيّة من أيّ نوع ومن أيّّ معتقد. إذ أنّ الدّين شأن فرديّ بين المواطن وبين ما يؤمن به من معتقدات، غيبيّة أو غيرها. ويجب أن يبقى هذا المعتقد في نطاق الفرد فحسب.

خامسًا: كذلك يجب تغيير العلم الإسرائيلي واستبدال النّشيد الوطني الإسرائيلي أو تغييره وحذف كلّ كلمة منه تفرّق بين المواطنين، على سبيل المثال كلمة يهودي الّتي تظهر في النّشيد، وذلك لكي يصبح العلم والنّشيد رمزين يجمعان في جوهرهما كلّ أطياف مواطني quot;هوملاندquot; على اختلاف أصولهم، ومعتقداتهم.

***
ومن الأمور الّتي طرحتها في اللّقاء ولم يتّسع المجال لنشرها لضيق المجال: تجدر الإشارة إلى أنّ البقعة الّتي نعيش فيها هي بقعة صغيرة، ويجب التّفكير بما هو حاصل لدينا. البشر يتكاثرون، والموتُ هو سنّة الطّبيعة. ولذلك يجب إلغاء المقابر في الدّولة الجديدة، إذ أنّ إفراد مواقع في هذه الأرض للمقابر هو أقتطاع للأرض لأهداف غير نافعة، فيخسر المواطنون مساحات واسعة من الأرض فتتحوّل هذه المساحات بلا أيّ منفعة تُذكر. ولذلك، سيتمّ استبدال هذه المساحات بحدائق من نوع آخر: كلّ مواطن يوصي قبل وفاته باختيار شجرة ممثّلة له، وبعد وفاته يتمّ حرق جثّته ودفن رماده في بقعة من الأرض ثمّ يتمّ زرع الشّجرة الّتي اختارها في ذات الموقع، فتكون الشّجرة باسمه، ويتمّ تثبيت لوحة نحاسيّة باسمه على جذع الشّجرة عندما تكبر وتنمو. وهكذا، وبدل المقابر والمدافن تتحوّل هذه المواقع إلى حدائق عامّة يستطيع أن يؤمّها المتنزّهون في المستقبل، وتتحوّل البلاد إلى جنّة خضراء يستظلّ بها المواطنون الهوملانديّون.
وفي هذا السّياق، ألم يقل لنا حكيم المعرّة؟

quot;خفّف الوطءَ ما أظنّ أديمَ الأرض إلا من هذه الأجسادِ
رُبّ لحدٍ قد صار لحدًا مرارًا ضاحك من تَزاحُم الأضدادِ
و دفين على بقايا دفين من عُهود الآباء والأجدادِ
صاحِ هذي قُبورُنا تملأ الأرْضَ فأينَ القُبورُ من عهد عادِquot;

إذن، فما رأيكم، دام فضلكم؟

salman.masalha at gmail dot com