تقول الرواية الشيعية أن الإمام موسى بن جعفر الصادق الملقب بالكاظم دخل يوما على الخليفة هارون الرشيد في المدينة المنورة فاستقبله الرشيد ثم ودعه بحفاوة بالغة لم يسبق للرشيد أن تعامل بها مع أياً من رعاياه من قبل. الأمر الذي أثار استغراب ولده المأمون الذي تساءل عن سبب هذه المبالغة في الترحيب والتوديع ؟. فرد الرشيد أن الكاظم هو صاحب الحكم الشرعي. فقال المأمون إذن لماذا لا ترد إليه الحكم ؟. فأجاب الرشيد، أن الحكم عقيم ولو نازعتني عليه لأخذت الذي فيه عينييك!.
قصة قد تكون من نسج الخيال الشيعي ولكنها تحمل مدلولا سياسيا بالغ الاهمية ينطبق اليوم على الوضع في ايران التي يدور فيها الصراع بين ابناء الفئة الواحدة وهم رجال الدين و ابناء بيت الحكم منهم على وجه الخصوص، حيث يسعى كل منهم الانفراد بكرسي السلطة دون منازع و ان اضطر الى أخذ رأس هذا المنازع دون النظر الى هويته.
هذا الصراع افرز في بدايته جناحين في بيت الحكم ( اصلاحيين ومحافظين ) متفقين على مبدأ واحد وهو النظام quot; الإسلامي quot; و لكنهم مختلفين على نظرية في الحكم اسمها quot; ولاية الفقية quot;. وقد تمحور الخلاف في بادء الامر حول مدى صلاحية منصب الولي الفقيه دون الدعوة الى الغاء هذا المنصب ولكن مع تقدم الاصلاحيين في السلطة اخذوا يعملون على الغاء منصب الولي الفقيه الذي يغزم منصب رئيس الجمهورية ويجعله منصب اقرب للشرفي اكثر منه ذو سلطة تنفيذية حقيقية. ومن اجل ان يجعلوا هذا الهدف وكأنه طلب شعبي فقد عمدوا الى تأليب القوى المؤثرة في الشارع والتي ليس لها صبغة سياسية كالحركة الطلابية والعمالية. وقد استطاع الاصلاحيون ان يستغلوا هذه الحركات للتعبير عن نواياهم المبيتة لخصومهم في الجناح الاخر. غير ان الخصوم الذين يمسكون بالعصب الرئيسي للسلطة والنظام وهي الاجهزة الامنية و العسكرية والقضائية فقد استطاعوا ان يحولوا الاصلاحيين الى مطاردين بتهم سياسية وفضائح مالية واخلاقية الامر الذي اساء سمعت الاصلاحيين في الشارع وافقدهم ثقت الناخب الايراني مما جعلهم يفقدون منصب رئاسة الجمهورية والاغلبية المطلقة التي كانت لهم في البرلمان والمجالس البلدية ويتحولوا الى اقلية برلمانية ضعيفة لا تقوى على تمرير او معارضة اي مشروع يطرح من قبل خصومهم في البرلمان.
الان ان ذلك لم يمنع الاصلاحيين، المنقسمون الى تيارين احدهم براجماتي بقيادة رئيس الجمهورية الاسبق ورئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام الحالي الشيخ هاشمي رفسنجاني واخر quot; ليبرو اسلامي quot; بقيادة الرئيس السابق محمد خاتمي، من مواصلة عملهم لتحقيق غايتهم اعتمادا على ادوات جديدة قديمة سبق لهم محاربتها الا انهم عادوا اليها لكونها تستطيع ان تدخل في مواجهة مع المحافظين بغطاء ديني بحت. وهذه الادوات هما الحركة الصوفية والحركة المهدوية فالاثنتين متشبثتين بالنزعة الدينية ولكنهما في الوقت نفسه معارضتين لسلطة الولي الفقيه بشدة ولكل منهما من المصادر والوثائق العقائدية الشيعية التي تؤيد وجهة نظرهما وتفحم المحافظين وتجعلهم محصورين بين خيارين ام القبول او الطعن بهذه المصادر و كل الخيارين فيهما خدمة لخصومهم.
ومع بدء التحضيرات لاجراء الدورة الرابعة لانتخابات مجلس خبراء القيادة، وهو المجلس المخول له مراقبة أداء المرشد الأعلى للجمهورية وتعيين خلفا له في حالة وفاته، التي سوف تجري نهاية العام الجاري والتي يحاول كل جناح من بيت الحكم كسب نتائجها لمصلحته، فقد تصاعدت حدت الصراع وقد اخذ كل طرف فيها يشحد ادواته بوجه الطرف الاخر و قد استخدمت للمرة الاولى وثائق سرية كان محرم استخدامها من قبل في مثل هذه المواجهات الامر الذي زاد من سوخونة مجمل ملفات الصراع وليس ملف الانتخابات وحسب. ومن ابرز الوثائق السرية التي تم سريبها في هذا الصراع لحد الآن رسالة سرية كان زعيم الثورة الايرانية الراحل الخميني قد وجهها لاركان نظامه في تموز عام 1988 قبل أيام من قبوله قرار مجلس الأمن 598 الداعي لوقف الحرب مع العراق، يشرح فيها أسباب قبوله بهذا القرار الذي اسماه بقرارquot; تجرع كأس السم quot;.
وتكشف رسالة الخميني عن مضمون رسالة من قائد الحرس آنذاك الجنرال محسن رضائي كان قد بعث بها إليه باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة يعلمه فيها إن القوات المسلحة الإيرانية باتت عاجزة عن تحقيق أي تقدم في الحرب، وان إيران بحاجة إلى 350 لواء مدرعا ومشاة و2500 دبابة و3000 مدفع، إضافة إلى 300 طائرة مقاتلة و300 طائرة هليكوبتر ـ لمواصلة الحرب ـ كما انه يجب أن تصبح قادرة على إنتاج الأسلحة الليزرية والنووية خلال السنوات العشر المقبلة.
وقد جاء تسريب الرسالة لوسائل الإعلام من قبل مكتب رفسنجاني لأحراج قادة الحرس الثوري الداعمين لجناح المحافظين والذي يشنون اليوم حملة دعائية ضد رفسنجاني محملين اياه مسؤولية الاخفاقات التي حصلت والتي حملت الخميني على قبول وقف الحرب مع العراق. هذا من جهة ومن جهة ثانية وبحسب رأي المراقبين فان هدف رئيس مجلس تشخص مصلحة النظام من نشر رسالة الخميني السرية هو توجيه ضربة للرئيس الايراني احمدي نجاد وتيار المحافظين الذين يعملون على وضع البلاد في مواجهة العالم من اجل مصالحهم السياسية .
ويعتقد المراقبون ان هذه الرسالة ربما تكون واحدة من عدة رسائل سرية سوف يتم الكشف عنها لاحقا يتعلق بعضها بقضية اعدام مهدي الهاشمي المتهم الرئيسي بالمسؤلية عن تفجيرات مكة المكرمة وقضية عزل خليفة الخميني انذاك الشيخ حسين علي منتظري و عملية تبييض السجون الشهيرة التي حدثت في عام 1988م والتي اعدم فيها اكثر من 35 ألف سجين سياسي و غيرها من امور اخرى غاية في الاهمية.
هذه الورقة المحرجة التي سربها رفسنجاني شجعت شركائه من تيارquot; اليبرو اسلامي quot; بقيادة خاتمي الى اللعب بورقة ثمينة اخرى وهي زج مرجع ديني معارض هو آية الله السيد محمد حسين كاظميني بروجردي، الداعي إلى ضرورة فصل الدين عن الدولة وعدم تسييس الدين، في أتون المعركة لتشكيل ورقة ضغط جديدة على المحافظين. فالبروجردي الذي كان صامدا طوال الفترة الماضية ويعمل بعيدا عن الأضواء في طهران تحول فجأة إلى مرجع شيعي صاحب شهرة واسعة في العالم بعد انتقاده العلني للنظام الإيراني و التعبير عن معارضته الشديدة لنظرية ولاية الفقيه.
وكان آية الله البروجردي قبل اعتقاله بأيام قلائل قد بعث برسالة إلى مفوض الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي quot; خافير سولانا quot; يشكو فيها من الضغوط التي تمارس ضده من قبل السلطات الإيرانية ويحذر من قيام الأجهزة الأمنية باغتياله. وقد تسببت هذه الرسالة التي كان لها صدا واسعا داخليا وخارجيا، بدفع وزارة الاستخبارات الإيرانية إلى مهاجمة منزل البروجردي واعتقاله بالإضافة إلى أكثر من ثلاثمائة من أنصاره و مساعديه الأمر الذي يعد خرقا جديدا لحرمة وحصانة المرجعية الشيعية وهو ما سوف يزيد من غضب المرجعيات الشيعية التقليدية على المحافظين ومرشد الجمهورية علي خامنئي.
المحافظون بدورهم وجدوا في زيارة الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي وما تخللتها من لقاءات سرية دارت بينه و مسؤولين أمريكيين فرصة لرد الكرة إلى مرمى الإصلاحيين. ولذلك فقد نشرت بعض وسائل الإعلام الموالية لقادة الحرس الثوري معلومات أكدت أن خاتمي التقاء خلال زيارته لواشنطن الشهر الماضي بثلاثة من مستشاري نائب وزيرة الخارجية الأمريكية الحالي quot;نيكولاس برينز quot;. كما كشفت مصادر المحافظين عن زيارة سرية لمسؤول أمريكي سابق إلى إيران خلال الأيام الماضية مؤكدة أن المسؤول الأمريكي هو quot; جيمز فيليب روبين quot; الناطق باسم الخارجية الأمريكية في إدارة الرئيس الأمريكي السابق quot; بيل كلينتون quot; والمتزوج من الصحفية الإيرانية الأصل quot; كريستين آمانپور quot; التي تعمل في قناة laquo; السي.ان.ان raquo; والمقيمة حاليا في العاصمة البريطانية لندن. وكشفت تلك المصادر ان جيمز روبين زار، خلال الأيام الخمس التي قضاها في إيران مدن طهران و قم وأصفهان ملمحة إلى لقائه بمسؤولين في الجناح الإصلاحي دون ان تسميهم غير أن وزارة الخارجية الإيرانية التي أكدت زيارة المسؤول الأمريكي وصفتها بالعائلية!.
هذه الاتهامات المتبادلة بين أجنحة النظام الإيراني والتي يتوقع لها ان تشهد تصاعدا في المرحلة القادمة يرى المراقبون أنها تركت شرخا بالغا في العلاقات بين الأطراف المتخاصمة محولة إيها من علاقة تنافس إلى حالة صراع حاد يحمل في باطنه مخاطر على النظام لا تقل أهمية عن تلك المخاطر الخارجية التي تتعرض لها إيران برمتها الأمر الذي يبعث على التساؤل إذا ما كانت هذه الصراعات، التي بلغت المساس بالعقائد والمقدسات، سيتمكن احد الأجنحة من سحق الآخر ليحوز السلطة بدون منازع أم سوف تهد بيت الحكم على الجميع؟.

الكاتب : رئيس المكتب السياسي لحزب النهضة العربي الأحوازي