بعد الاحتلال الأمريكي للعراق قررت ألا أكتب شيئاً في السياسة، مطبقاً قول سقراط ((الشيء الذي أعرفه أني لا أعرف))، أو كما قال الشاعر أدونيس بصيغةٍ أقل تشاؤماً ((من يقدر أن يتكلم لا يعرف، و من يعرف لا يقدر أن يتكلم))، على الرغم من إني تخرجت في كلية الاقتصاد و العلوم السياسية، و قضيت ما يقارب الربع قرن من عمري في بغداد، اشتغلت في أماكن مختلفة فيها و في القطاعين العام و الخاص، شاغلت نفسي في البداية بكتابة الشعر، فنشرت لي بعض قصائد في الصحف، إلا أن الصديق العزيز إبراهيم احمد أقنعني بكتابة القصة، فكتبت قصصاً نشرت جميعها في المجلات و الصحف و على المواقع الالكترونية المعروفة، أعيد نشر أغلبها أكثر من مرة دون أن أعلم، في صحف و مواقع الكترونية أخرى، فأعددتها و أرسلتها إلى صديق ليدفع بها إلى المطبعة لتخرج منها مجموعة في كتاب إن لم يحدث ما يؤخر طباعتها، لكن مقابلة في إحدى القنوات الفضائية قبل فترة جمعت بين شخصيتين كانت إحداهما نائب في مجلس النواب العراقي عن القائمة العراقية نعت فيها ما يزيد على 55% من الشعب العراقي ((أبناء العامة))، و أمط العبارة فأقول انه وصف أكثر من مليار و مائة مليون مسلم في العالم ((أبناء العامة))، و قيل انه كرر ذلك في مقابلات و أحاديث أخرى، كما تحث في المقابلة عن السهروردي المقتول في حلب ت 587هـ و أشار إلى نظرية الإشراق فامتدحه، فألغيت قراري و كتبت هذا المقال.
كان الأجدر بالنائب بصفته رجل دين أن يتحدث عن التصوف الإسلامي الذي يستمد مصادره من كتاب الله تعالى و سنة نبيه محمد صلى الله عليه و سلم، خصوصاً التصوف الإسلامي المعتدل الذي كانت الريادة فيه لآل البيت بدءاً بالإمام زين العابدين بن الحسين ت 95هـ عليهما السلام و الحسن البصري الذي جاء بعده 110هـ ثم الإمام جعفر الصادق 148هـ سلام الله عليه و مدرسته الممتدة عبر سفيان الثوري 161هـ و جابر بن حيان 190هـ و معروف الكرخي 200هـ و المحاسبي 243هـ و الجنيد 297هـ وصولاً إلى الإمام الغزالي 505هـ و مدرسته الممتدة عبر الشاذلية (الشاذلي 656هـ) و تياراتها و تفرعاتها، إلى الآن و ظهور محمد إقبال، و أترك الحديث في هذا الموضوع إلى مقال آخر، أتناول فيه فلسفة التصوف عند فريد الدين العطار، معاصر السهروردي المقتول في حلب الذي يشاركه الرأي في نظرية الإشراق من جهة و يشارك الحلاج في الإله الإنسان من جهة أخرى، و أبين موقف العطار من الشريعة، و ما شاهدته الطيور بعد قطعها و اجتيازها الوديان السبعة بقيادة الهدهد في رحلتها إلى السيمرغ و ما وصل إليه العطار من نتيجة، و استعرض فلسفة اليوغا الهندية و تعاليمها و النتيجة التي توصل إليها من يمارسها حتى شوطها الأخير، و هي النتيجة نفسها التي وصل إليها العطار في ملحمته الشعرية منطق الطير.
سمعت ((أبناء العامة)) لأول مرة في حياتي من شخص بسيط طيب القلب لا يعرف القراءة و الكتابة يكبرني في العمر، كان يعمل حارساً و أنا مراقب عمل، فضحكت و أصبحنا أصدقاء نلتقي بعد انتهاء العمل، نقضي جزءاً من الليل نتحادث، نتلاطف و نضحك قبل أن أذهب إلى النوم لأنا غريبان، و سمعتها للمرة الثانية في حياتي يرددها النائب فدهشت!!
أود أن أبين للنائب المحترم أن دراستي الأكاديمية للتاريخ الاقتصادي لأوربا للفترة الممتدة بين 1850 ndash; 1919، علمتني أن دول الأشراف و النبلاء قد انهارت بعد قيام الثورة الصناعية، و لم يعد هناك أشراف و لا نبلاء، بل تطور الأمر و حل محلهم الآن ملوك المال و ملوك البترول و الحديد و السيارات و الأسلحة الذين يجلبون الكرب و الردى ((كما يقول المرحوم السياب عن كروب في قصيدته بور سعيد))، و الصحافة و وسائل الإعلام و الاتصالات و الالكترونيات و كذلك الحركة الصهيونية العالمية، و جميع هؤلاء يتحكمون باختيار رئيس أقوى دولة في العالم و تحديد مسار سياستها، و هم مافيا تقتل من يتعرض لمصالحتها حتى و إن كان من اختيارها، و ما حدث لجون كيندي و عائلته ليس ببعيد، كما إن أقوى دولة في العالم الآن تحدد المسار السياسي لدول أوربا، و الدول الصناعية، و الدول الغنية في العالم، ناهيك عن الدول الفقيرة و تجعلها تدور في فلكها، تقاطع من يعارض سياستها من الدول، تفرض عزلة عليها، تعرّض مصالحها الاقتصادية للخطر، و الأمثلة كثيرة في هذا العالم لا تحتاج إلى توضيح، كما أوضح للنائب المحترم أن الإسلام قد ألغى الخاصة منذ ظهوره قبل أكثر من ألف و أربعمائة عام و اسأله ألم يقرأ قوله تعالى في كتابه الكريم {فإذا نُفخَ في الصور فلا أنساب بَيْنَهُم يومئذٍ و لا يتساءلون}؟ هل نسي قول النبي محمد صلى الله عليه و سلم {سلمان منا أهل البيت}؟ و حديث آخر لا أحفظه لكني أعرف معناه ndash; لا يقدس الله أمةً لا يأخذ ضعيفها حقه و هو متعتع - ؟ ألم يسمع بما فعله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بجبلة بن الأيهم أمير الغساسنة حين أمر الأعرابي أن يصفعه كما صفعه جبلة بعد أن داس الأعرابي على رداءه؟، فارتد جبلة عن دينه الإسلام و عاد نصرانياً كما كان، هل غاب عنه قول الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لواليه على مصر عمرو بن العاص ((متى استعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحرارا)) و هو يضربه بالدرة؟ هل يدري النائب أن في العراق ممن سماهم ((أبناء العامة)) من ترجع أنسابهم إلى قريش، بل إلى بني هاشم بالذات؟، أريد أن أطرح على النائب الجليل أسئلة و أضع أمامه معلومات قد يكون لا يعرفها عن تاريخ العراق الحديث، تذكرة له لعله يعرف دور من أسماهم ((أبناء العامة)) في تحرير العراق و بناء نهضته في جميع المجالات و قيام دولته الحديثة التي اغتالها العسكر قبل أن تكتمل و تنضج فأسأله: هل يعرف ممن سماهم أبناء العامة الشيخ عاصي العويف، و هو أحد قواد ثورة العشرين الذي نفي إلى الهند هو و ولده خضير و قسم من أتباعه، الذي استشهد ابنه نوفل في معركة الجسر في المسيب، قد كتب إلى الشيخ طه و الشيخ محمد تقي الحائري و هما من علماء الدين و مشايخه في النجف الأشرف سنة 1918 يطلب منهما الفتوى للشروع بالجهاد و قتال المحتلين الانكليز، فجاءه الرد أن الجهاد ضد المحتلين الانكليز واجب ديني على كل مسلم؟ و يمكن الرجوع لمزيد من المعلومات إلى وثائق وزارة المستعمرات البريطانية و وثائق وزارة الخارجية البريطانية أيضاً، و أرفق صورة للفتوى المرسلة إلى الشيخ عاصي و ابنه الشيخ خضير و صورتين للشيخ عاصي العويف و ولديه خضير و نوفل، و أخرى له و لولديه و معهما قسم من أتباعه.


هل سمع النائب أن ممن سماهم ((أبناء العامة)) أول سكرتير للحزب الشيوعي العراقي قبل يوسف سلمان ((فهد)) عاصم فليح الجنابي الذي درس الفكر الماركسي و التنظيم الحزبي في موسكو، لكنه ترك العمل السياسي و تفرغ للخياطة و تجارة الأقمشة؟
هل يتذكر النائب أن صبيحة الشيخ داود رائدة النهضة النسائية في العراق، أول امرأة عراقية تخرجت في كلية الحقوق العراقية هي ممن سماهم ((أبناء العامة)) و أن أباها الشيخ داود رجل دين من مدينة عنه في غرب العراق؟
هل يعلم النائب أن رواد الشعر العربي الحديث جميعاً ممن سماهم ((أبناء العامة)) نازك و السياب و البياتي و بلند، و ان أكثر من ثلاثة آلاف و خمسمائة أطروحة كتبت عن البياتي و السياب وحدهما لنيل درجة الماجستير و درجة الدكتوراه في مختلف جامعات العالم؟ و ان رواد القصة القصيرة الناضجة الكاملة هم أيضاً ممن سماهم أبناء العامة، عبد الملك نوري و فؤاد التكرلي، و ذو النون أيوب و عبد الخالق فاضل و غيرهم، و كذلك كتاب الرواية؟ و ان ممن أطلق عليهم(( أبناء العامة)) علماء و فلاسفة و مفكرين عراقيين لهم شهرة عالمية في دول العالم و جامعاتها و لهم نظريات مسجلة بأسمائهم في مختلف فروع العلوم العلمية و الإنسانية، و ان هناك صناديق بعثات بأسمائهم في جامعات العالم المختلفة، تمنح المتفوق من الطلبة بعثة إذا كان تخصصه في فرع من العلم الذي تخصص فيه العالم الذي سجل الصندوق باسمه؟
هل يعرف النائب ان معه في القائمة العراقية ممن سماهم ((أبناء العامة)) من هم أكثر منه خبرة و تجربة في السياسة، معروفون في العالم، عملوا في السياسة قبل أن يأتي إلى الدنيا؟ فكيف به ينادي بالديمقراطية و الحرية (حرية الوطن و المواطن)، حرية الفكر و العقيدة و الرأي، حرية المرأة، و يتحدث عن حقوق الإنسان و هو يصف أغلبية الشعب العراقي ((أبناء العامة))؟ ألم يعرف ان العراقيين سواسية أمام القانون إذا أقيمت دولة القانون و المؤسسات المدنية، لا فرق بين أحد منهم و ان اختلفت قوميته أو ديانته أو طائفته؟ هل يتذكر النائب ما حصل له في الناصرية أثناء الانتخابات أو قبلها بقليل؟ هل يعرف لو أن الترشيح فردياً لما وصل إلى مجلس النواب، لكن الانتخاب بالقائمة أوصله إلى المجلس؟
هل قرأ النائب ما كتبه المرحوم ساطع الحصري ((أبو خلدون)) مدير التعليم العام في عهد الملك فيصل الأول، الذي تعلم أكثر العراقيين مبادئ القراءة و الكتابة في قراءته الخلدونية، في أحد كتبه، عن قريبه الشاعر الكبير و سبب رفضه تعيينه معلماً في ذلك الوقت؟ هل قرأ الأشعار التي قالها الشاعر التي ضمها كتاب الحصري و التي منعت الحصري من تعيين الشاعر معلماً؟
أخيراً أقول رحم الله من أقرأنا و نحن على مقاعد الدراسة صغاراً القصة المعروفة ((أيهما أغلب على المرء الطبع أم التطبع)) و رحم الله من قال:

تأبى الرماحُ إذا اجتمعن تكسُّراً و إذا افترقن تكسّرت آحادا