منذ أن سقط النظام الملكي في العراق في ذلك التموز الأسود عام 1958، يوم أن قفز العسكريون والضباط على السلطة في العراق ورفعوا الشعارات الكبيرة التي لم تكن ظهورهم تتحمل ثقلها، والعراق يسير من مجزرة لمجزرة، و ينحدر من مصير أسود لوضع أشد سوداوية و أعقد حالا، ففي إنقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958 لم تسقط الشرعية الدستورية فقط تحت جنازير الدبابات الصدئة لبعض المغامرين من الضباط، بل سقطت كل الخيارات العراقية الحرة للتقدم والسير للأمام وبناء الوطن العراقي الدستوري المتحضر الذي تحكمه القوانين العصرية ووفق رؤى حضارية متقدمة كانت تترسخ تدريجيا في المجتمع العراقي قبل أن يجهز الضباط غير الأحرار على كل شيء ويتركوا العراق جثة هامدة بعد أن تراجعت صيغة الوطنية العراقية لصالح الصيغ العشائرية المتخلفة و الطائفية البدائية و الولاءات الحزبية لأحزاب هي مثال للتخلف و التراجع الحضاري و للعدوانية و التوحش بأبشع صوره و معانيه، فالعهد الملكي في العراق كان يحاول السير وسط جبال و غابات الشوك العراقية، و كان يحفر في الصخر الأسس القوية لتجربة ديمقراطية حداثية متقدمة كانت تحتاج للوقت الكافي لإنجازها وفي ظل ظروف إقليمية و دولية صعبة وتحت قيادة رجال تاريخيين عركوا الأيام وكان ولائهم للعراق أولا و أخيرا رغم كل التشويه التاريخي المغرض الذي لحق بسمعة الجيل الرائد و المؤسس للكيان العراقي الحديث و أبرزهم الشهيد الراحل نوري (باشا) السعيد و الذي برغم أخطائه وبعضها قاتلة يظل رمزا عراقيا شعبيا أصيلا ظلمه أهله و ظلمه التاريخ ورحل في ظروف مأساوية لا تشرف التاريخ العراقي المعاصر بل تطبعه بوصمات العار التي نراها حية و متجسدة اليوم ضمن إطار الصراع المتوحش و البدائي القائم حاليا بين الملل و النحل و الشعوب العراقية المتعاركة على كل شيء و أي شيء، كما كان رحيل العائلة العراقية الهاشمية المالكة السابقة بالشكل الفظيع الذي حصل يمثل إستمرارا تاريخيا لحالة الغدر الظالم و تواصلا مع حلقات غدر تاريخية موجعة حفل بها تاريخ الدم العراقي منذ أن سفحت دماء أهل بيت النبوة وسيد الشهداء الإمام الحسين (رض) و أهل بيته الأطهار على ثرى كربلاء لتشكل عارا تاريخيا كان هاجسا دائما لشريف مكة (الحسين بن علي) وهو يتنبأ للوفد الشعبي العراقي الذي جاء يطلب تنصيب المغفور له الراحل الملك فيصل الأول بأن مصير أسرته قد لا يكون مختلفا عن مصير الأجداد قبل أربعة عشر قرنا من الزمان!! و ما أغرب مصادفات التاريخ و ربما حتمياته حينما أعاد نفسه بشكل مأساوي في ذلك القيظ العراقي لتكون جثث العائلة المالكة عنوانا تاريخيا للغدر وهي تسحل في شوارع بغداد !، فمنذ ذلك اليوم إبتدأ عهد (البلطجة المنظم) في العراق! ومنذ تلك اللحظات كتب على العراقيين الطيبين منهم و الأشرار أن يكونوا ضحايا دائمين لسقط المتاع و للسفلة و للسرسرية الذين وثبوا على قطار الحكم، فالبلطجية من الضباط (غير الأحرار) سرعان ما دخلوا في صراعات دموية شرسة ومريرة عبرت عن نفسها في حفلات التقاتل و الإنقلابات المستمرة و الإعدامات الدائمة ! و البلطجية من ضباط تلكم الأيام الذين إرتبطوا بمخابرات جمال عبد الناصر و صنيعته عبد الحميد السراج في الشام أيام (الوحدة اللي ما يغلبها غلاب)! هم الذين أطلقوا وحوش (السرسرية) و الشقاوات وباشروا عمليات الإغتيال السياسي الواسعة في المدن العراقية ضد مناوئيهم !! بل أن التاريخ العراقي ولربما العربي سيظل يتذكر حزب البعث العربي الإشتراكي بكونه الحزب القومي الوحيد الذي إعتمد على الشقاوات و أبناء الشوارع الخلفية و العناصر الإجتماعية الساقطة في بناء منظومته التكوينية التي فرضت إرهابها الأسود على الشارع العراقي المسكين أولا قبل أن يتضخموا ليصبحوا فيما بعد (شقاوات الأمة العربية) وبلطجيتها وفتوتها الأوحد عبر سياسات الضم والغزو والإلحاق في الكويت وغير الكويت، فشقاوات البعث العراقي سيظل تاريخ العراق الحديث ملونا بلون الدم الأحمر القاني وهو يتحدث عن منجزاتهم التاريخية أيام إنقلابهم الأسود في فبراير عام 1963 حينما إنطلقوا كالوحوش الكاسرة في حملات الإعدام الجماعية و الإغتصابات الشاملة وبقية الممارسات المخجلة التي يندى لها جبين الإنسانية، في ذلك العام دشن البعثيون سياسة (الشقاوة و البلطجة) التي أضحت سنة بعثية متبعة وموروثة إكتوى بنارها البعثيون ذاتهم حينما جاء للسلطة واحد من أشد زعماء عصاباتهم و أشرس شقاواتهم ليعصف بالبلطجية الذين هرموا! و ليؤسس لجيل بعثي جديد من القتلة و السرسرية و الشقاوات هم الذين يقومون اليوم بجرائمهم (العظيمة) في ذبح الأطفال وفي قتل النساء وفي سيادة الإرهاب تنفيذا لرغبة شيطانهم الأكبر صدام التكريتي في : (تحويل العراق لوطن بلا شعب)!! وهذا هو السيناريو الإرهابي البعثي المطبق اليوم بكل جدارة رغم تخفيه خلف الشعارات الوطنية و القومية و الإسلامية، و لعل الإنجاز الأكبر لدولة البعث (السرسرية) هو تكوين ذلك الجيل الفظيع من القتلة و المتوحشين الذين يعيثون اليوم بأرض العراق فسادا... ومع ذلك لا يخجل أولئك القتلة و الأوغاد من أيتام البعث بحلم العودة للسلطة عبر تصعيد الإرهاب متناسين أن الزمن قد تغير و أن الحل الحاسم معهم لم ينفذ بعد.. و الأهم من كل شيء هو تناسيهم لحقيقة أن البلطجية لا يصنعون التاريخ بل هم عار الشعوب، و إذا كانت البلطجة البعثية المعروفة قد تحولت لصيغ طائفية مجنونة فإن ذلك لا يلغي الحقيقة العارية التي تقول بأن البعث بكل أجياله و بلطجيته و شقاواته بكل صورهم المتجددة ليس سوى نفاية في مزبلة التاريخ.

[email protected]