عُرف عن الانكليز ولعهم بابتكار المصطلحات وكذلك اشتهارهم بضرب الامثال ومنها المثل القائل (الكلام المعسول لا يطهو الجزر الابيض) اي ان الكلام الجميل لاقيمة له ان لم يقترن بالعمل. ويكاد ينطبق هذا المثل على حالة العراقيين اليوم الذين ملوا وسأموا من الوعود السخية التي قدمتها الاحزاب والكتل في موسم الانتخابات وكذلك الحكومات المتعاقبة بتحقيق الامن وبسط الاستقرار وتطوير الخدمات الاجتماعية ولكنهم لم يحصلوا على اي شئ منها. اما في حقل المصطلحات فقد ابتدع الانكليز مصطلح (البطة العرجاء)او (lame duck) والذي استعمل اول مرة في القرن الثامن عشر في بورصة لندن للدلالة على التاجر او السمسار الذي يتخلف عن الايفاء بديونه ثم استخدم المصطلح في عالم السياسة ليشير الى كل عضو منتخب يفشل في اعادة انتخابه او لم يرشح نفسه للانتخابات ثانية لكنه ظل في منصبه بين وقت الانتخاب ووقت تعين من يخلفه في المنصب. وبكلمة اخرى سياسيا يشير هذا المصطلح الى حالة اللاتوازن في الحكومة بفقدانها الاغلبية البرلمانية فتفقد توازنها كما تفقد البطة العرجاء التوازن في طريقة المشي بسبب العرج الذي اصابها.
وفي الاونة الاخيرة شاع استخدام هذا المصطلح في الاعلام البريطاني عند الحديث عن انتخابات الكونغرس الامريكي النصفية وبوجه خاص راح البريطانيون يصفون الرئيس الامريكي بوش بالبطة العرجاء وذلك بعد فوز خصومه الديمقراطيين بالانتخابات النصفية وسيطرتهم على الكونغرس بمجلسيه الشيوخ (100 عضو) والنواب(435 عضو) الامر الذي يعني تعقيد الامور بوجه الرئيس اذ سيكون عليه ارضاء الديمقراطيين بقرارته واقناعهم بسياساته رغم ان الجمهوريين والديمقراطيين في امريكا لايختلفون كثيرا في ما يتعلق باجندة السياسة الخارجية ولكن ساحة اختلافهم هو السياسة المحلية) policy domestic ) وهنا ستتعقد مهمة الرئيس الامريكي وذلك لعدم وجود اغلبية برلمانية مريحة لحزبه تمرر له سياساته الداخلية بعد خسارة الجمهوريين في الانتخابات النصفية امام الديموقراطيين مما سيفقد حكومته التوازن وهذا تفسير وصف الرئيس بالبطة العرجاء.
انتقل الان من الشأن الامريكي الى العراقي وأدلف مباشرة الى حالة رئيس حكومتنا العتيدة السيد نوري المالكي والذي يبدو انه في طريقه الى ان يُحول هو الاخر الى بطة عرجاء لكن ليس بسبب افتقاره الى الاغلبية البرلمانية كما هي الحالة مع السيد بوش بل بسبب اداء حكومته العرجاء ذاتها. شخصيا أكن كل الاحترام والتقدير للجهود الكبيرة التي يبذلها المالكي وليس لدي ادنى شك في اخلاصه او تفانيه لخدمة العراق وشعبه بيدَّ ان المشكلة ليست فيه بل بمن حوله وبمن معه من وزراء حكومته التي باتت تعرف بحكومة الوحدة الوطنية. الكل يدرك الظروف التي تشكلت بها هذه الحكومة حيث ولدت بعملية قيصيرية بعد ان طال انتظارها وبعد اصرار البعض والذي اقام الدنيا واقعدها يومها على ان تكون حكومة (استحقاق وطني) لا استحقاق انتخابي والفرق بين الاثنين كبير , ففي الاولى يدخل الوزارة كل من هب ودب على طريقة الاسترضاء و(التوافق) اما في الثانية فيتم تشكيلها وفقا لما افرزته نتائج الانتخابات حيث تعمل الكتلة الاكبر في البرلمان وفقا للدستورعلى تشكيل الحكومة و تصبح هي وحدها المسؤولة امام الشعب والمعارضة البرلمانية عن النجاح او الاخفاق, اما حكومة (الاستحقاق الوطني) فتعني فيما تعني التملص من المسؤولية والقاء كل طرف فيها مسؤولية الفشل على عاتق غيره وهذا ما حصل فعلا فكان لدعاة حكومة (الاستحقاق الوطني) ما ارادوا ولكن ماذا كانت النتيجة؟
ذات يوم كتبت متساءلاً هل المطلوب حكومة وحدة ام وحدة حكومة؟ ذكرت في حينها ان تجارب الدول التي مرت بظروف مشابه لظروفنا تقول ان نجاح اي حكومة يتوقف على وحدتها وانسجام اعضائها فيما بينهم اذ ليس المطلوب الاسم الذي تحمله الحكومة بل المطلوب هو عملها وانجازاتها على ارض الواقع. ولكن وللاسف ان ما حدث هو ان البعض تمسك بالمباني وترك المعاني اي تمسك بشكل الحكومة واسمها ولم يلتفت الى تماسكها وانسجامها ومن هنا قلت ان المراد هو وحدة الحكومة لا حكومة الوحدة كما ارادها البعض. لم يعد سرا ان هذه الحكومة فشلت في اداءها لكن من يتحمل نتيجة الفشل؟ هل هو المالكي ام من اصر على ان تكون حكومة وحدة وطنية عملا بمبدأ المحاصصة سئ الصيت؟
في اعتقادي ان المالكي لايتحمل الفشل وذلك لانه لم يختر وزراء حكومته بنفسه بل فرضتهم عليه المحاصصة اللعينة التي وصل باسمها البعض من اشباه الاميين والفاشلين والعاجزين والوصوليين والانتهازيين الى كراسي الوزارة فحق القول على بعضهم انهم (وزراء خردة). ان من اصعب الامور التي تواجه رئيس اي حكومة وحدة وطنية هو عدم سيطرته على اعضاء وزارته بسبب انصياعهم الى قادتهم الحزبيين او من رشحهم الى مناصبهم حيث تنطبق الحكمة القائلة ( لا امر لمن لايطاع) على رئيس هذه الوزارة ويكون مثله كمثل رئيس لايمتلك الاغلبية في البرلمان اي يتحول الى (بطة عرجاء) يتوسل زعماء اعضاء وزارته في كل قراراته وعلى ما يبدو ان السيد المالكي يتجه نحوهذا الشئ بحسب تجربة الستة اشهر من عمر وزارته.
ان من المؤسف حقا هو وجود النوايا السيئة المبيتة ضد المالكي وحكومته لدى بعض الكتل المشاركة في هذه الوزارة اذ لم يعد سرا ان البعض من هؤلاء يعمل مع الحكومة والمالكي في النهار ويتآمر عليها وعليه في الليل وآخر تلك المؤامرات وليس اخيرها الرسالة التي وجهها احد اركان الحكومة الى السفير الامريكي يطلب فيها من (المحتلين الامريكيين) كما يصفهم ان يتوقفوا عن (دعم ومساعدة) حكومة المالكي التي يشغل هو فيها منصبا خطيرا متهما اياها بالطائفية حسب ما جاء في رسالته ! والحقيقة ليست كذلك لانه يعلم علم اليقين ان هذه الحكومة ابعد ما تكون عن الطائفية لانها حكومة (وحدة وطنية) تقوم على المحاصصة بدليل مشاركته هو وابناء جلدته فيها ولكن السبب وراء رسالته الكيدية ضد الحكومة ليست طائفيتها كما ذكر بل لان المالكي قرر عزله من منصبه ضمن عملية التغيير الوزاري التي ينوي القيام بها قريبا.
هذا المثل واحد من عشرات الامثلة التي توضح حجم المعاناة التي يعشيها المالكي والذي كلما حاول تصحيح وضع خاطئ او المضي قدما في ضرب قوى العنف والارهاب او ملاحقة المطلوبين للعدالة او رتق فتق من الفتوق التي تعاني منها حكومته يخرج علينا من يهدد بالانسحاب من الحكومة بل اكثر من ذلك هناك محاولة جادة هذه الايام لدى كتلة او كتلتين للانسحاب من حكومة المالكي بغرض افشالها وتشهد الكواليس في لندن وعمان ودبي اجتماعات متوالية بهذا الخصوص حيث من المتوقع انسحاب احد هذه الكتل خلال الايام القليلة القادمة. هذا مثال آخر في طريقة تعامل البعض مع حكومة المالكي رغم انه جزء منها. وهو مثال ايضا على عدم شعور هذا النفر بالمسؤولية الاخلاقية والوطنية الملقاة على عاتقهم او تجاهلهم لهذه المسوؤلية وكل ما يهمهم هو تحقيق مصالحهم الحزبية والفئوية الضيقة حيث لايزال البعض يفكر بطريقة كيدية وبعقلية تآمرية تذكر بأيام المعارضة يوم كان هذا الفصيل يكيد لذاك متناسين انهم الان رجال دولة وحكم وليس معارضة ولكن يبدو ان من شب على شئ شاب عليه.
ما الحل وكيف يستطيع المالكي الخروج من هذا المأزق؟
الحل هو في وحدة الحكومة وانسجامها ولايتحقق ذلك الا بتغيير_ وليس تعديل كما يبشر به البعض_ اقول بتغيير وزاري حقيقي وجذري وهذا لا يتحقق الا بتجاوز مبدأ المحاصصة من خلال انتقاء واختيار الاكفاء بعيدا عن هذا المبدأ المقيت واعتماد الكفاءة والحرفية والتخصص معيارا في انتخاب اعضاء الوزراة. انها فرصة حقيقية امام المالكي لاحداث تغيير جوهري في اللعبة السياسية وتصحيح الخطأ الذي نشأ من اعتماد المحاصصة كمعيار في تشكيل الوزارات وفرصة ايضا له وللمخلصين في تحقيق النجاح واخراج البلد مما هو فيه وتخليصه من الطغمة الفاسدة في حكومته التي باتت تتحكم بمصائر الملايين. انها مهمة قد تبدو صعبة وعسيرة لكنها غير مستحيلة اذا ما قرر المالكي وضع يده بيد الوطنيين الذين عرفوا بحنكتهم السياسية وبمواقفهم الشجاعة عند الشدائد والازمات وفي السراء والضراء وباتوا موضع احترام الشعب. هؤلاء من يستحقون ان تشكل منهم الوزارات لا الذين يحيكون المؤامرات ضد المالكي وبعضهم _للاسف الشديد_ من ابناء تياره ! فهل سيفعلها المالكي الذي ُيراد تحويله الى بطة عرجاء ويقلب سحر المحاصصة على الساحر؟ سؤال ننتظر الاجابة عليه مذكرين انفسنا بالمثل الانكليزي القائل ( احلك الساعات تلك التي تسبق الفجر) وما يمر به بلدنا الحبيب اليوم هو احلك الساعات التي تسبق فجر الحرية والديمقراطية والامان والاستقرار.
* تنويه من الكاتب
أود لفت عناية الجميع إلى انني تعرضت إلى عملية سطو الكتروني من قبل مجموعة إرهابية بعثية تكفيرية حيث سرق مني عنواني الالكتروني ( الايميل) والمعنون بـ [email protected] وعليه فان أي رسالة تصلكم من هذا العنوان البريدي لم تعد تمثلني أما بريدي الجديد فهو [email protected] علما ان هذه المجموعة الإرهابية نشرت بعض الرسائل وكذلك المقالات التي تمتدح نظام صدام البعث البائد مستغلة عنواني الالكتروني المسروق واسمي الشخصي في محاولة لتضليل القراء الكرام ولتشويه صورتي وسمعتي لذا استوجب التنويه مع شكري الجزيل لتفهمكم.
التعليقات