من تجاور المعاني يتم توطيد العلاقة ما بين quot;التاريخ والحياة quot;، وبذات القدر تتشكل العلاقة ما بين quot;التاريخ والطبيعة quot; وإذا كان كوبرنيك قد دعا إلى استقلال البحث في مجال الطبيعة، فأن دعوة quot;شبنغلر quot;قد دعت هي الأخرى إلى استقلال البحث في مجال التاريخ، انطلاقاً من أهمية رفض الأسبقيات في إطلاق الأحكام الجاهزة حول المقارنة بين العصور الحديثة والعصور القديمة. فجاهزية كهذه ستجعل من المؤرخ يقع في شراك وهم لا يختلف كثيراً، عن الوهم البصري في تمييز الأجسام، حيث يشاهد الجسم الأقرب إليه، هو الأكبر،والأكثر غنى بالتفاصيل. فالتاريخ العالمي العام ما هو إلاّ صور لانهائية من الانقطاع والظهور، تلعب فيه الصدفة والاتفاق دورهما الفاعل في إظهار صورته المربكة والمقلقة إلا أن هذا الظهور يبقى بحاجة إلى مصدر صيرورته. من هنا إستقى quot;شبنغلر quot; من quot;غوته quot; ت 1832، فكرة قوة الكمال الأول quot;الصورة الأولية quot; والمستندة إلى أن أساس وجود المادة يقوم على الحركة. وأن تعدد أنواع الحركة، يفضي إلى حيوية المادة، حيث الوجود بقوة حية إلى الأبد. وهكذا وجه نقده إلى التقسيمات التي وضعها المؤرخون الغربيون للتاريخ العام، مشيراً إلى المركزية التي وضعوا أنفسهم فيه، جاعلين من التواريخ البعيدة للحضارات السابقة مكاناً هامشياً، لا يخلو من التبعية. هذا بالإضافة إلى النظرة المؤكدة على أن حركة التاريخ تسير باتجاه واحد قوامه استمرار التقدم. انطلاقاً من مبدأ المثل الأعلى. من هنا كانت نظرته الجديدة إلى التاريخ، جاعلا من الحضارة الوحدة الأساسية فيه، في حين اعتبر quot;الحضارة quot; بمثابة الكائن الحي( الإنسان، الحيوان، النبات ) وكان اعتقاده في ولادة الحضارة يرتبط بانفصال الروح عن الحالة الروحية الأولى. وأن موت الحضارة يرتبط بتحقيق الروح لجميع تمثلاتها في اللغة والدين والفن والعلم والسياسة والمجتمع والثقافة، لتعود الروح إلى الحالة الروحية الأولى.

يتشكل الوجود الحقيقي من صورتين ؛)) الوجود الرمز - والآنية ((.ويتخذ الوجود الرمز، طابع المعنى كونه غير حقيقيي، ويتشكلّ تكونه في صورة التاريخ. على اعتبار أن صورة التاريخ ما هي إلا رمز عن الوجود الحقيقي. أما الآنية فأنها لا تحتوي على معنى، على اعتبار وجوده في الواقع وظهوره للعيان، مع الأخذ بنظر الاعتبار أهمية الزمان فيه،بل أن الأهمية تظهر وبجلاء للمكان. والرمز لا يفسر، لكن يتم إدراكه بشكل جزئي، انطلاقاً من المرجعية الثقافية الواحدة. وهو تمثل لصلة بين الكائن والكون، انطلاقاً من المعنى الذي يمثله الكون بالنسبة للكائن، وليس للسؤال عن الكون في ذاته.
يرتبط الرمز بالحدث الذي مضى ولن يعود، لذا فان دلالته تكمن في موت الحياة وبالتالي الفناء، إذ لم يبق منه سوى الامتداد والارتباط بالمكان. على اعتبار أن الامتداد مادة، وهي نقيض الروح، والروح حياة، والحياة نقيض الموت. ومن هذه النقائض يمكن الوقوف على استدلال يكمن في تكافؤ الموت والمكان، انطلاقاً من لحظة التوقف . فإذا توقفت الحياة تحولت إلى موت، وإذا توقفت الروح تحولت إلى مادة.
إحساس واعي ــــ صورة التاريخ ــــــ التجربة الحية ـــميلاد الكون الخارجي
الرمز ---مكان --- امتداد -- مادة --موت --العمق -- حياة شعورية quot;الرمز الأولي quot;
الواقع ---زمان -- -اتجاه -- روح --حياة --الإدراك --- يقظة الروح quot;الحضارة quot;
من هنا يتشكل معنى الرمز الأولى في مظاهر الحضارة، عبر المجتمع والسياسة والقانون والفن والدين والأسطورة والثقافة والعلوم. وهكذا يحدد quot;شبنغلر quot; الرموز الأولية لمجموعة من الحضارات، فالحضارة المصرية رمزها quot; الطريق quot;، والقديمة quot; يونان ـ رومان quot; رمزها الجسم المنعزل المتكتل، والعربية التجويف الداخلي quot; الكهف quot; والغربية المكان اللامتناهي الخالص. فالامتداد والسعة والنظر الدائم إلى البعيد حيث الفضاء الواسع، تعد من السمات المميزة للمعمار الغربي. وهكذا هي الحال بالنسبة لمظاهر الحضارة الأخرى، ان كان في الرسم أو الشعر فالحضارة الغربية لا تنسجم روحها، إلاّ في اللامتناهي واللامحدود. ومن هذه الروح تبلورت النزعة الاستعمارية حيث الامبراطوريات الواسعة التي لا تعرف الحدود أو تؤمن بها. إنه الشغف اللانهائي نحو الأفق الأرحب وهو الحافز الذي يجعل من المسكتشف الأوربي متطلعا ًنحو سبر أسرار مجاهل أفريقيا، أو ركوب البحر للبحث عن طريق جديد إلى الهند، وهكذا الحال مع غزو الفضاء والنـزول على سطح القمر، والإنترنت والأقمار الفضائية والقنوات الفضائية التلفزيونية واتفاقية الجات في مجال الاقتصاد. أو انتشار النزعة الاستهلاكية وسيادة الذوق الغربي في الملبس أو انتشار التعامل بالبطاقات الائتمانية، أو السيارات ووسائط النقل الأخرى المصنعة في الغرب، أو الإقبال على مطاعم الماكدونالد والبيتزا والمشروبات الغازية. فكل هذه المظاهر لا تعدو أن تكون أعراضا لظاهرة quot;التشكل الكاذب quot; حسب تعبير quot;شبنغلر quot; وما هي إلا عقبات في وجه تطلع الحضارة للشعور بذاتها.
لايغفل quot;توينبى quot; ت 1975 أهمية التاريخ في الحاضر، على اعتبار العبرة الواضحة التي يقدمها الماضي في سبيل إغناء الأحكام في العصر الراهن، ومن هذا يتجلي التماثل بين الماضي والمستقبل. ومن
خلال منهج الاستقراء كان التطلع نحو دراسة التاريخ انطلاقاً من الاعتماد على الوحدة الحضارية الكاملة، مقصياً في ذلك القومية. لان حركة التاريخ لايمكن أن تقوم على فاعلية عنصر بعينه، بقدر ما تستند على التفاعل الاجتماعي المفضي إلى الحضارة . وهكذا كانت انطلاقة quot; توينبي quot; نحو التاريخ العالمي، متخطيا الرؤية العرقية العنصرية التي تأثرت بالتقدم الذي بلغه الغرب. وهو في تطلعه نحو هذا المسعى رفض فكرة خضوع التاريخ للروح التي نادى بها quot;هيغل quot; على اعتبار أن الروح التاريخية لاتكمن في الفرد بل في المجتمع. وعليه لابد من الخضوع الكامل لارادة المجتمع الذي تمثله الدولة. وبالمقابل لم يأخذ بالمقولة المستندة إلى أن الروح تكمن خارج سياق التاريخ، لأنها تخضع التاريخ للتفسير الخاطيء على اعتبار أن الحقيقة ستكون خارج التاريخ حيث العالم الآخر. كذلك رفض دور المصادفة في حركة التاريخ على اعتبار خضوعه لقوى غير منظورة في صيرورة المجتمعات، ولم يأخذ بفكرة الدورة الحضارية التي نادى بها quot; شبنغلر quot;.
كانت الأبحاث التي اشتغل عليها quot;توينبى quot; قد أوصلته إلى تحديد خمس حضارات قائمة من أصل إحدى وعشرين وهي ؛ الغربية، الأرثوذكسية، الإسلامية، الهندية، البوذية (الشرق الأقصى ). محدداً العامل الرئيس في نشوئها إلى الدين وليس إلى الدولة. على اعتبار أن الدين يعد الأس الأهم في تفعيل المجتمعات لمواجهة المشاكل. في حين أن الدولة تكون الوسيط الذي تعيش في كنفه جرثومة الانحلال والتفسخ، وباعتبار تطلع النخبة لاستنفاد موارد المجموع. باعتبار الأسبقيات التاريخية يمكن الإشارة إلى أن المجتمعات أسبق للظهور من الحضارات، ومن خلال التماثل يمكن المقارنة بين الحضارات، مع الوعي الجاد والدقيق بأن التاريخ لا يعيد نفسه ، أو القول بالوحدة الحضارية، لأنه ينطوي على كثير من العسف، لأن هذا يصب بالمحصلة في نتيجة مغلوطة قوامها أن الحضارة الغربية هي إلاوريثة الحضارات العالمية السابقة. وللتأكيد على هذه الفكرة يشير quot;توينبى quot; أن الحضارة الفرعونية لم يكن لها أب ولم يكن لها ابن يورثها. كذلك عمد إلى نقض العامل البيئي في نشأة الحضارة من خلال الاستدلال بمنهج المقارنة مع البيئات المختلفة. وعليه خلص إلى نتيجة مؤداها يقوم على ؛ أن العسر هو المكمن الذي يحفز التحدي في الإنسان من أجل التكيف وخلق المناخ الملائم لمسيرة حياته. وإذا ما عجز الإنسان عن مواجهة التحديات الطبيعية والبشرية في استجابة سلبية فأن مصيره المحتوم سيكون الخذلان والفشل.
من هنا كانت نظرية quot; التحدي والاستجابة quot; في صنع الحضارة.. انطلاقاً لجملة من التفسيرات الجمعية والفردية، حيث الإشارة إلى العديد من عباقرة التاريخ الذين اندفعوا لسد النقص الكامن فيهم، لاسيما من ذوي العاهات ما بين العمى والعرج والعبودية. أو التحدي الذي واجهته المسيحية إزاء الدولة الرومانية. ومن هذا القوام لطبيعة التحدي والاستجابة، تتحول الاستجابة المتمثلة quot;بالإبداع quot; إلى quot;تحدي quot; منتقلة من طور quot;الركود quot; إلى طور ((القوة الدافعة )) وهكذا تتجلى مؤثرات النـزعة القومية على توينبى التي تفاعلت في أوربا منذ القرن الثامن عشر.