أحوال لبنان وفلسطين والعراق، في هذه الأيام القاتمة، لا تسرّ صديقاً قط. إنها تجعلنا مجدداً في وارد الإحالة إلى quot; الإسلام السياسي quot;، وبوصف تنويعاته، هنا وهناك، القوة السياسية المرتهنة لها أحوال تلك البلدان، المتفجرة. فعلى الرغم من حقيقة، لا تنكر، في إختلاف أهل الجماعات الإسلامية عن بعضهم البعض، في كثير من مناحي الفكر والسلوك، إلا أنه تبقى الحقيقة الاخرى؛ المتمثلة في توحّدهم على ما يُسمونه quot; إقامة حكم الله على الأرض quot;. وكونهم يستمدون المرجعية الإلهية، سواءً بسواء في برامجهم السياسية أو رؤاهم الإيديولوجية، قد أوحى لهم، إعتباطاً، أنّ من حقهم ـ كأحزاب معارضة أو حاكمة، فرض مفهومهم الخاص للديمقراطية. غنيّ عن التشديد ، أننا نتكلم هنا عما يُعرف بالإسلام السياسي quot; المعتدل quot;، وبكل تلاوينه وتنوعاته. وفي هذا المقام، لا بدّ لتشديدنا أيضاً أن ينسحبَ إلى تلك المفارقة، المواربة في طيات الفكر الإسلامي الحديث : وهيَ إعتبار الديمقراطية ـ كمفهوم ونظام ـ بدعة مستوردة من الغرب؛ وكل بدعة حرام. وعطفاً على ما سبق، لا بدّ لنا من العودة إلى أصل ما إفترضنا أنها quot; مفارقة quot;، في ذلك الفكر الموسوم؛ ونعني به، إتجاه بوصلته المُجادلة والتي كانت تتأرجح طوال معظم عقود القرن الفائت ما بين مقارعة الشيوعية والليبرالية؛ وإعتبارهما شكليْن لمضمون واحد : الإلحاد. كان في وهم الجماعات تلك، أنّ الأنظمة الشيوعية، الأوروبية، قد إنهارت نتيجة منازلة المجاهدين للقوات السوفياتية على أرض أفغانستان؛ منازلة، من المفترض برأيهم أن تبقى على زخمها خلال الإنتقال بها إلى أرض العراق، خصوصاً، تصدياً للزحف الغربي، الليبرالي.

وها نحنذا في أرض العراق، التي أضحتْ اليوم كما لو أنها quot; مختبر quot;، بالنسبة لأطياف الإسلام السياسي؛ سنية كان أم شيعية. هؤلاء وأولئك، كانوا أثناء الحكم الصدّامي ، البائد، متفقين على تكفيره بوصفه نظاماً quot; علمانياً quot; ذا فكر إيديولوجيّ مناهض للإسلام؛ غامزين مما كانوا ينعتونه بـ quot; صليبية quot; مؤسس البعث، ميشيل عفلق. بيْدَ أننا لا يجب الخلط بين الجماعة السنية، الملتفة حول الفكر السلفي المعتدل ( الحزب الإسلامي، تحديداً )، وتلك الجماعات ذات الصبغة الطائفية نفسها، ( هيئة العلماء المسلمين وأضرابها ) والتي نبتت مؤخراً كالفطور هنا وهناك من تربة العراق الأوسط، بشكل خاص : إن هؤلاء الأخيرين، لا يخفون حنينهم للنظام السابق، المدحور، بوصفه تعبيراً عروبياً / سنياً، قبل كل شيء. وما يؤكد توجههم هذا، إنما حقيقة كون معظم دعاتهم ـ وربما جميعهم ـ من المرتبطين بهذا الشكل أو ذاك بمؤسسات النظام المنهار، الدينية. فلا غروَ إذاً، أن تكون quot; هيئة العلماء quot; تلك، في حقيقتها، غطاءً سنياً، علنياً، للتكفيريين المستوردين عبْرَ الحدود السورية؛ حدّ أنّ شيخها، حارث الضاري، قال في المقابلة الأخيرة له مع قناة quot; العربية quot;، حرفياً : quot; نعتبرُ جماعة quot; القاعدة quot; في العراق من ضمن حركة المقاومة التي تجاهد ضد الإحتلال الأمريكي quot;. الحزب الإسلامي، هوَ تاريخياً الحركة الإخوانية، الأصيلة، في موطن الرافدين، وكانت له مواقف معارضة، مشهودة، من النظام البعثي؛ مما عرضه للإضطهاد الشديد وتصفية أعضائه إعداماً وتعذيباً حتى الموت. ما كان بالغريب، والحالة تلك، أن يُشارك الحزب في نشاطات المعارضة العراقية، المناوئة آنئذٍ للنظام الصدّامي، ومن ثمّ بعيدَ سقوطه في العملية السياسية، الديمقراطية.

مثل ذاك التراتب في المشهد العراقي ، وجدَ أيضاً في الجانب الآخر من الإسلام السياسي؛ أيْ الأحزاب والجماعات ذات الصبغة الشيعية. إن أبرز هذه التنظيمات، هما بلا شك quot; حزب الدعوة quot;، العريق، و quot; المجلس الأعلى للثورة الإسلامية quot;. كلاهما كان ينطلق، طوال معظم مراحل معارضته للنظام الصدامي، من إيمانه بالفعل النضالي، المسلح، للإطاحة بذلك النظام؛ متبنياً خصوصاً تجربة ثورة الخميني، الإيرانية، ومدعوماً بقوة منها. على أنه إثرَ فشل إنتفاضة الجنوب العراقي لعام 1991، وخذلان الجمهورية الإسلامية لحلفائها الشيعة، المنتفضين، إتجه هؤلاء إلى إعتماد إستراتيجية جديدة؛ متمثلة بالإنفتاح على الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، بغية الإطاحة بنظام صدّام الذي كان محاصراً بشدة دولياً بعد حرب تحرير الكويت. وكما كانه حال الجانب السني المعتدل، الموصوف آنفاً، فإنّ إسلاميي الشيعة، الأصيلين، أظهروا أنفسهم عشية التحضير لإسقاط صدام كما لو أنهم البديل المناسب له، الشعبيّ؛ وفي آن كصديق محتمل للغرب ومصالحه في المنطقة. إلا أنّ هؤلاء راحوا بدورهم يخلون مواقعهم تدريجياً لجماعات مستجدة، من طائفتهم نفسها؛ كـ quot; التيار الصدري quot;، بقيادة زعيمه، مقتدى الصدر quot;. هذا الرجل الميليشياوي المذهبي، المكتسي قيافة عالم الدين، والذي إلتمّ حوله كل الأفاقين والقتلة والسرسرية إلى أتباع الأجهزة الأمنية البعثية، المنحلة، بعدما تمّتْ إستتابتهم ـ كذا. إن الفكر الشيعي تاريخياً، كان متسماً غالباً بالإنفتاح والتسامح والإعتدال، مترجماً بذلك حال رعيته، المتظلمة، التي عانت ما عانته من إقصاء وتهميش من لدن النخب السنية، الحاكمة، ومنذ إشراقة الإمبراطورية العربية، الأولى. لا غروَ والحالة تلك، أن يلاحظ المرءُ الفرق الفادح، الواضح، بين قطب الإسلام السياسي هذا، المستلهم مآثر آل البيت، وبين غريمه؛ الموافق للهوى الأمويّ : ومن تجليات ذلك، على صعيد التجربة السياسية في عراق ما بعد البعث، أن الجماعات الشيعية، بما فيها الأكثر تطرفاً، قد أثبتت إحترامها للعبة الديمقراطية ـ كخيار وحيدٍ لحكم البلاد، وإستناداً للدستور الدائم. قد يكون ثمة إختلافات في الرؤية حول الشكل الفيدرالي لنظام الحكم؛ إلا أنّ تلك الجماعات متفقة على رفض مركزية القرار السياسي، خوفاً من العودة إلى مرحلة الإنقلابات الديكتاتورية. على أنّ إحترام هؤلاء وأولئك للعبة الديمقراطية، يجب ألا ينسينا حقيقة كون تلك اللعبة متوافقة مع التركيبة البشرية للعراق، والتي تضمن إستحواذ أكثريتها العددية لمفاتيح الدولة؛ ونقصد بها الطائفة الشيعية، طبعاً.

توصيفنا آنف الذكر للإسلام السياسي، الشيعي، في العراق، ربما ينطبق، إلى حدّ ما، على شقيقه اللبناني؛ المعتدل والمتطرف على السواء. ربما أن كون موطن الأرز تقليدياً، متجذرة فيه الحياة الدستورية، قد كبح بهذه الدرجة أو تلك، من إندفاعة النخبة الشيعية في السياسة الوطنية، خصوصاً بعدما عانته ـ وطائفتها ككل ـ من تهميش طوال عقود أربعة من زمن الحرمان، الذي أعقب مباشرة إرساء الكيان اللبناني الحديث، المستقل. من غير المعلوم جزماً، إتفاق كون لبنان متفرداً بإيواء القسم الأكبر من شيعة البقعة الجغرافية الشاسعة، الموسومة تاريخباً بـ quot; بلاد الشام quot;. ولكن كون البلد الجار، السوريّ، ملاذاً للفرق الهرطوقية، المنبثقة عن الجماعة الإثني عشرية ( العلوية والإسماعيلية والموحدية الدرزية ) ، قد جعل هذه وتلك في حال من الإمتداد والتواصل والتضامن؛ خصوصاً خلال الليل العثماني، الطويل. سنرى هنا، أنّ ما يمكننا تسميته بـ quot; صحوة أقلوية quot; في سورية الحديثة، المستقلة، قد إنعكس بشكل مؤثر على أهل المذهب الأصل، الشيعيّ، المتركنين في موطن الأرز. إنّ إستحواذ النخبة العسكرية، العلوية، على مفاتيح السياسة السورية، منذ أواسط ستينات القرن الآفل ، لم يكن له في واقع الأمر من صدىً في ذلك الموطن، الجار؛ وربما بسبب عدم تجانس تلك النخبة، من حيث الطرح الطائفيّ، فضلاً عن الحقيقة المعروفة من كون المختلف العلوي مع مذهب الأثني عشرية أكثر من المتفق. إنّ quot; الصحوة الشيعية quot; ، اللبنانية، كانت من نتائج الحرب الأهلية ( 1975 ـ 1990 )، ولا يمكن عزلها بتاتاً عن الوجود السوري / والإيراني لاحقاً، طوال معظم مراحل تلك الحرب وما أعقبها. وبما أنّ التدخل العسكري لنظام الأسد في البلد الجار، كان متخبطاً على غير هدى في صراعاته وتحالفاته مع المكونات اللبنانية جميعاً؛ فما كان لسَدَنته إلا الإلتفات أخيراً إلى الشيعة ـ الطائفة المنبوذة آنئذٍ ـ وإعتمادها أولاً كحليف سياسيّ مضمون الولاء لتدخلهم ذاك، وتالياً كرافدٍ بشريّ ذي زخم هائل نسبياً؛ بما أنّ العلويين أقلية ضئيلة العدد في سورية. لن نتكلم هنا عن دعم كلّ من نظاميْ دمشق وطهران لحركة quot; أمل quot;، ومن ثمّ quot; حزب الله quot;، فهي مسألة غنية عن التأكيد. على أنّ تخريب التجربة اللبنانية، كان على ما يبدو من أولويات الجار السوري، ولداع جوهريّ، لم يعد خافياً الآن : وهوَ تناقض تلك التجربة، الديمقراطية، مع مثيلتها البعثية، الديكتاتورية. فإذ بني النظام اللبناني، برمته، على توافق مكونات البلد المذهبية، فبالمقابل نجدُ النظام السوري، في تركيبته الطائفية الأقلوية، الأحادية، مهيمناً على الحياة السياسية بعقلية الحزب الواحد والأب القائد؛ وبالتالي ما كان له إلا أن يهمّش بقية مكونات البلد المذهبية والأثنية، وتحت يافطته القديمة، المثلثة، المعلنة منذ إنقلاب الثامن من آذار 1963 : العروبة وتحرير الأرض المحتلة وبناء المجتمع الإشتراكي. لا عجب إذاً، أن تكون محاولات النظام السوري منصبة على إستنساخ نموذجه في لبنان، مستفيداً من هيمنته على مقدراته جميعاً : مبتدهاً لعبته من قمة هرم السلطة، بفرض الجنرال العسكريّ، اميل لحود، في موقع الرئاسة ومن ثمّ التمديد له بشكل غير دستوريّ ( الأب القائد ! )؛ وحصر القرارَيْن السياسي والعسكري برمته بمجموعة وحيدة متجانسة مذهبياً، تحت دعوى quot; المقاومة quot; ( الحزب القائد ! ). وليس إتفاقاً، أنّ نفس تلك اليافطة البعثية ، المثلثة، يرفعها اليوم إنقلابيو المعارضة اللبنانية، بقوتهم الضاربة، حزب الله. فهؤلاء يطالبون بإستقالة حكومة الأغلبية المنتخبة، بمزاعم إرتباطها بالغرب ( نقيض العروبة )، ومحاصرة سلاح المقاومة ( نقيض التحرير )، وأخيراً كونها غير نظيفة وعادلة ( نقيض الإشتراكية ). ومما يفاقم من مهزلة التماثل هذا، الموصوف، أنّ قوى المعارضة اللبنانية قد إختارت نعت نفسها بـ quot; قوى 8 آذار quot;؛ وكأنما لكي تؤكد تواشجها العضويّ، المصيريّ، مع نظام الطائفة المختارة، الجار : مثل هذا النظام، يُراد تطبيقه في لبنان، وبأي ثمن، حتى لو كان الحرب الأهلية؛ رغم أن هذه مستبعدة لسبب بسيط، وهو أنّ الأطراف المتمثلة في الحكومة اللبنانية، العزلاء تماماً، في غير وارد المواجهة مع ترسانة حزب الله وحلفائه، المتخمة بالسلاح المهرب من سورية وإيران.

للحديث صلة..

[email protected]