الحج ركن من أركان الإسلام لمن استطاع إليه سبيلاً. وكأي ركن عبادي، هناك حكمة في أداء هذه الفريضة، تتمثل في أمور كثيرة منها أن يأتي المسلمون إلى الحج من كل فج عميق، ومن مختلف الشعوب والأقوام والطبقات، يقف الجميع في بيت الله وبين يديه تعالى خاشعين متساوين دون تمييز، لا فرق بين الفقير والغني، بين الحاكم والمحكوم، بين الأسود والأبيض...الخ.

كذلك من المعروف أن الحج مطلوب من المسلم المقتدر أن يؤديه مرة واحدة، أما إذا استطاع تكراره فيما بعد فمستحب ولن يعاقب إذا لم يعيده ثانية. فالحج ليس العمل الوحيد الذي يستفيد منه العبد الصالح في التخلص من ذنوبه والتقرب إلى الله، بل هناك مجالات عبادية أخرى يمكن أن يكسب بها المسلم رضاء الله في تحقيق هذا الهدف إذا ما توفرت لديه النية الحسنة والقصد السليم. وأهم هذه الأعمال الحسنة أن يقوم المسلم بأداء واجباته الوظيفية بأمانة وإخلاص لخدمة المصلحة العامة. ولكن في زماننا هذا صار البعض ينظر إلى هذه الفريضة نظرة سطحية ويهتم بالشكليات دون الاهتمام بالجوهر والمضمون والحكمة منها، وبالتالي يؤدي إلى نتائج معكوسة. إذ صار البعض يستغل هذه المناسبات للدعاية لنفسه واستغلال منصبه للتهرب من واجباته ومسؤولياته التي يتقاضى عليها الراتب، من أجل التظاهر بالتدين المفتعل جرياً وراء الموضة لركوب الموجة، وليعطي انطباعاً بأنه من المؤمنين الحريصين على أداء الفرائض الدينية، ومآرب أخرى على حساب واجباته الأخلاقية. ففي العراق أهزوجة شعبية تقول: (حج بيت الله وصار نهيبي)، أي صار نهاباً، ثم يحج ثانية ليتخلص من آثامه الجديدة، وهكذا، وكما قال الدكتور علي الوردي: (أنهم يعبدون الله وينهبون عباد الله.)

مناسبة هذا المقال هي ما نسمع من تذمر المواطنين العراقيين من المسئولين الحكوميين، وزراء ومحافظين وعدد كبير من نواب البرلمان وأعضاء مجالس المحافظات، الذين تركوا واجباتهم الرسمية وذهبوا إلى الحج رغم توصيات المرجعيات الدينية لهم بالبقاء في العراق لخدمة الشعب النازف. كما ويبدو أن هناك منافسة شرسة بين هؤلاء المسئولين في الذهاب إلى الحج. فكما طاعون المحاصصة الطائفية والعرقية في توزيع المناصب، هناك أيضاً حصة لكل مسئول، وزير ونائب برلماني وغيرهما من المتنفذين، في ترشيح من يرغب في أداء فريضة الحج، وهذا يدل على مدى الدرك الأسفل الذي هبط إليه هؤلاء في العراق الجديد في استغلال مناصبهم للمنافع الشخصية، ولكن في هذه المرة يستغلون اسم الله والفرائض الدينية. فهؤلاء لا يكتفون بحصتهم من الغنائم في هذه الدنيا بل ويتسابقون فيما بينهم حتى على الآخرة أيضاً!!!

فكما يفيد مراسل راديو (سوا) أن غادر بغداد 140 عضوا في مجلس النواب يرافقهم نحو عشرة وزراء متوجهين إلى الديار المقدسة في السعودية، إضافة إلى سفر ثلث أعضاء مجلس محافظة البصرة المؤلف من 40 عضوا، و13 عضوا من مجلس محافظة ميسان و15 عضوا من مجلس محافظة الديوانية وعدد من أعضاء من مجلس محافظة الناصرية. (الرابط أدناه). لا شك أنهم سيتغيبون عدة أسابيع عن وظائفهم خلال السفر، وأكثر من أسبوع لاستقبال الزوار المهنئين لهم بسلامة العودة، وهكذا يبقى هذا الشعب ينزف بين الإرهابيين وغياب المسئولين.
فلو كان العراق حقاً يعيش أوضاعاً طبيعية من الأمان والاستقرار وتقديم الخدمات، ونجح هؤلاء المسئولون في أداء واجباتهم على أفضل وجه، لقلنا أنهم كغيرهم من المسلمين في العالم، من حقهم أن يتمتعوا بحقوقهم في أداء هذه الفريضة. ولكن الله تعالى يقول: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) وهناك مسألة الأولويات، كما ونصحتهم المرجعية بالبقاء في العراق لخدمة المواطنين. فهل هذا هو جزاء الشعب الذي انتخبهم وتحدى تهديدات الإرهابيين في إيصالهم إلى مواقع المسؤولية دون غيرهم؟

إن ما يقوم به هؤلاء المسئولون قد خيبوا آمال الشعب الذي جازف بحياته وتحدى تهديدات الإرهابيين وانتخبهم ووضعهم في موقع المسؤولية وأثبتوا له أنهم دون المستوى المطلوب. والدليل على ذلك هو الإهمال المتعمد في الواجب وتفشي الفساد الإداري على جميع المستويات إلى حد أن اضطرت الدولة تشكيل لجنة النزاهة لملاحقة الفاسدين. كما وهناك أنباء تفيد أن عدداً كبيراً من نواب البرلمان لن يحضروا الجلسات حتى في الأيام الاعتيادية، خاصة عندما غابت الكاميرات التلفزيونية من مجلس البرلمان. وهناك عدد لا يستهان به من النواب صاروا مقيمين دائميين في عمان مع حراسهم الشخصيين يقبضون الرواتب دون أي خدمة يقدمونها للشعب.

كما وتجدر الإشارة إلى مسألة أخرى أراها مهمة بهذه المناسبة، وهي تكرار البعض إلى الحج لأكثر من مرة وحتى للمرة العاشرة ويعاملون الحج في هذا الخصوص كما كانت الكنيسة تبيع صكوك الغفران في القرون الوسطى. فإذا كان قصد هؤلاء مرضاة الله وغسل ذنوبهم وآثامهم، فيمكن تحقيق ذلك بأساليب أخرى دون أي تغيب عن الواجب أو تكرار الحج. فكما أخبرني صديق أثق به، نقلاً عن عمه الذي كان مرجعاً دينياً في كربلاء، أنه بدلاً من صرف الأموال في السفر إلى الحج، يمكن صرفها على الفقراء وهو أفضل عند الله. وما أكثر الفقراء في العراق هذه الأيام. وهذا الكلام أوجهه ليس إلى المسئولين السياسيين العراقيين فحسب، بل وحتى إلى العراقيين في الخارج الذين أدوا فريضة الحج أكثر من مرة، أليس من الأفضل دفع الخمس والزكاة وتكاليف السفر إلى فقراء العراق ومساعدتهم في هذه الظروف القاسية؟ أليس هذا أقرب إلى مرضاة الله من الشكليات التي لا يمكن أن تخدعوا بها أحد؟
ــــــــــــــ
التفاصيل من راديو سوا http://www.radiosawa.com/article.aspx?id=1100576