منذ وصول محمود عباس إلى منصب رئاسة السلطة قبل عامين تقريباً، لم يجتمع مع أولمرت سوى مرة واحدة في البحر الميت. وهذا هو اللقاء الثاني، يتم في القدس الغربية، لأول مرة. فما هو الجديد فيه وماذا تمخض عنه يا ترى؟ اللقاء، كما تقول وسائل الإعلام العبرية، تمخض عن سماح أولمرت بصرف 100 مليون دولار من مستحقات الجمارك لرأس السلطة. والبحث في مسألة إطلاق سراح عدد من المعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال، والأهم: إعادة المفاوضات بين الطرفين وفق خطة خارطة الطريق. تلك هي أهم نتائج هذا اللقاء. فهل تكفي هذه النتائج، الأقرب بعضُها على النوايا، والناقص بعضهُا الآخَر، لكي ترضي تطلعات الشعب الفلسطيني وقوى الاعتدال والسلام فيه، حتى يثق بالمستقبل وبقادم الايام؟

ألم يكن بإمكان أولمرت صرف مستحقاتنا التي يحتجزها، كاملة لا منقوصة، والتي بلغت حوالي 600 مليون دولار، لكي تُصرف على الرواتب والنفقات الجارية الضرورية، بدل تقسيطها، وربما منعها في المستقبل لأي سبب من الأسباب؟

كنا نأمل من محمود عباس، ألا يذهب إلى هذا اللقاء، إلا وهو حاصل على ضمانات وتأكيدات، بأن لقاءه، يتمخض عن نتائج عملية محرزة، وليس فقط مجرد ديكور إعلامي. وهو الأمر، الذي لطالما أشار إليه الرئيس نفسه في عدة مناسبات. فما ينتظره الشعب الفلسطيني المحاصر والمُجوّع، بفضل سياسات أولمرت بالذات، هو أعلى بالتأكيد من نتائج هذا اللقاء العابر.

كنا ننتظر تحريراً لعدد كبير من الأسرى. كنا ننتظر أن تعود لنا أموالنا المحتجزة بأكملها. فهذا هو أضعف الإيمان. لكن أولمرت، استطاع إقناع رئيسنا باللقاء، واستطاع إقناعه بالفُتات.
والآن حين نحسب الربح والخسارة على الجانبين، نرى أولمرت ربحَ أكثر مما ربحَ الشريك الفلسطيني. أولمرت تنازل فقط عن مئة مليون دولار، وعن بعض التسهيلات المكياجية، فيما عاد محمود عباس بوعود ونوايا لا أكثر.

ومع هذا، وقبل وبعد هذا نقول: إن إسرائيل الرسمية لم تستوعب الدرس بعد. ولم تفكر إلى الآن في تغيير سياساتها في المنطقة. بل هي تُعيد إنتاج مأزقها ومأزق كل قوى الاعتدال في الإقليم. فهؤلاء الأخيرون، لا يجدون ما يقدمونه لشعوبهم. ما دامت هي مصرّة على عمائها السياسي، وعلى النظر إلى مختلف الأمور والتغيرات الحاصلة، بنظر كليل قصير لا يرى أبعد من أرنبة الأنف.

لقد راهنّا، خاصة بعد تقرير بيكر - هاملتون، واحتمال تغير الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، أن تستوعب إسرائيل العبرة، وأن تغيّر من مقترباتها ورؤاها للصراع التاريخي. لكن يبدو أنها ما تزال تغط في ثقتها العمياء بصواب سياساتها.
ما يعني أن المشوار، لم يزل، بعدُ، طويلاً، أمام قوى الاعتدال والمتشوفين إلى سلام معقول بين الطرفين.

إسرائيل الرسمية ما زالت تتعامل مع قضيتنا وشعبنا تعامل شايلوك في مسرحية شكسبير الشهيرة: تعامل التاجر والمرابي فقط. لذا هي لا تعطي إلا بمقدار وبعد حساب طويل. وتعطي، كما يقال، بالقطّارة. ولمن؟ لشعب يكاد يكفر بكل شيء، بعدما جُوّع وعُذّب وحوصر. فهل من الحكمة في شيء أن تصنع إسرائيل معنا هذا الصنيع؟

واضح أننا، قوى الاعتدال في مأزق. مأزق صنعته إسرائيل الرسمية في الأصل والأساس. وواضح أننا ليس لدينا حتى القليل من الأوراق لنقنع بها شعبنا. كما واضح أن حماس محقة في الكثير مما تقوله. لا بأس. علينا أن نعترف بهذه الحقيقة. إسرائيل تريدنا جميعاً ضعفاء. سواء مَن كانوا معتدلين أم متطرفين. فليس من مصلحتها ( ولا أعرف لماذا ) أن يقوى أي طرف فينا. وحين يقوى طرف على طرف، فهي تدفع باتجاه أن يقتتلا، كما حصل أخيراً في الشهور والأيام الأخيرة.

لقاء عباس - أولمرت لم يُحدث ثغرة في جدار الانسداد السميك بين الطرفين. ولم ينقذ الرئيسيْن من ضعفهما. فكلاهما ضعيف وكلاهما يريد إحراز نقاط لمصلحته. وربما ينفع هذا مع أولمرت، لكنه أبداً لا ينفع مع عباس. وما لم تحدث خطوات على الأرض، يلمسها المواطن الفلسطيني العادي قبل المسيّس، فلن يحرز الرئيس شيئاً. ولن تزداد شعبيته، ولن يجني سوى المزيد من الخيبة والخسران.

إن علينا قول ما يجب أن يقال، وما تحجبه بعض الزوبعات السياسية والإعلامية أحياناً: وهو: على إسرائيل أن تتغيّر، على الجلاد أن يتغيّر، قبل أن يُطالب الضحية بالتغيير. شعبنا ملّ وزهق من الوعود الكاذبة والكلام المعسول. شعبنا يريد انفراجاً في أزمته. يريد أن يعيش، بكرامته، فإذا توفرت له هذه الكرامة المادية والمعنوية والرمزية، إذا رأى تغييراً حقيقياً في الطرف المقابل، وليس تكتيكياً، سيذهب حينها إلى السلام. وسيتنازل لكي يصل إلى حلول وسط. أما قبل ذلك، فوهمٌ ووهم. أما قبل ذلك، فليس سوى مزيد من تجليات الأزمة والمعضلة. وليس سوى المزيد من ثباته اليائس على حقوقه.

إن المشكلة أولاً وأخيراً تكمن في سياسات إسرائيل. فهذه هي التي تعطي قوى التطرف الأفقَ الأوسعَ لتعملَ، وتتغلغل بين الناس.

كلنا يعرف بأن أولمرت له حساباته من هذا اللقاء. وكلنا يعرف أنه الآن أضعف رئيس وزراء إسرائيلي منذ تشكيل دولة إسرائيل. وكلنا يعرف اللعبة الداخلية الإسرائيلية. والحق أننا لم نكن نتوّقع من عباس، أن يجتمع معه، ويخرج بهذه النتائج الهزيلة. النتائج الهزيلة، التي تقوّي قوى أخرى في الساحة الفلسطينية، وتعطيها المبررَ مجدداً، لكي تصرّ على مواقفها المعلنة.ولكي يصرّ معها الشارع الفلسطيني بغالبيته، على أن quot; لا فائدة quot;، ولا أمل يُرجى، ولا فسحة أمل.
فإسرائيل تريد كل شيء مقابل أن تعطينا اللاشيء أو الفتات، مثل إلغاء بعض الحواجز العسكرية في الضفة، وما شابه ذلك. فهل هذا يكفي لإقناع شعبنا، بأنّ خلف الأكمة ما خلفها؟ وهل هذا يكفي لأن يقتنع الشعب المعذب المحاصر، بأنّ عذابه قد آن له أن ينتهي أو حتى أقله أن يخفّ؟

أسئلة نُحيلها على النخب السياسية والثقافية في الجانبين، وعلى نحو خاص في الجانب الإسرائيلي. هذا الجانب الذي يشكو من نتائج الانتخابات الفلسطينية، ومنها ذهاب شعبنا إلى حماس. وهو يعرف، جيداً، أن حماس ما كان لها أن تفوز لولا انسداد واغتيال مشروع أوسلو، ولولا تعنتّ إسرائيل، وعدم تنازلها في أي شيء جوهري.

لقد حدثت بعض التغييرات الإستراتيجية في المنطقة. منها صعود إيران وطموحها إلى لعب دور إقليمي فاعل ومؤثر، ينافس دور إسرائيل ذاتها. ومنها مأزق الإدارة الأمريكية في العراق. وما لم تفهم إسرائيل هذه المتغيرات، وما لم تعط شيئاً محترماً لقوى الاعتدال والسلام في الجانب الفلسطيني، فإنها على الأغلب ستواجه مستقبلاً، ليس فقط حماس، بل قوى أكثر تطرفاً من حماس، ستدخل على الخط، وستفعل الكثير مما يحلو لها.

لقد تعبنا من مناشدة الإسرائيليين أن ينتبهوا وأن يتغيّروا، وأن يعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله. فبغير هذا، ستظل المنطقة بأكملها بؤرة صراع، وحافات براكين، وما لم تُحل القضية الفلسطينية، التي هي جذر وأساس ومربط فرس الشرق الأوسط برمته، فلن نهنأ لا نحن ولا غيرنا بالحياة، وبالأمل في العيش الهادىء الكريم.

لقد آن الأوان لإسرائيل، بوصفها هي سالبة الحق، أن تعطينا حقوقنا. آن لها أن تنظر أبعد من مصالح سياسييها القصيرة النظر. آن لها أن تؤمن حقاً بالسلام كمشروع حياة لها ولمواطنيها في المقام الأول.
وللأسف، فإسرائيل الرسمية غير جاهزة لذلك حتى هذه اللحظة. وإسرائيل الشعبية أيضاً وبالضرورة. ما يُعيدنا دوماً إلى المربع الأول، وإلى خيار الصفر السلبي. وما يفتح أفق الكارثة على كل الإقليم.

كلمة أخيرة إلى السيد عباس: نحن نظن أنك تسرّعت في إتمام هذا اللقاء. ونظن كذلك أنك أصبتَ شعبكَ بضربٍ من خيبة الأمل. فشعبك على الأقل، كان يأمل منك تحرير مبلغ ال600 مليون دولار، والتي هي حقه الخالص، وما احتجاز إسرائيل لهذا المبلغ سوى بلطجة. وكان يأمل منك أيضاً، أن يخرج المئات من الأسرى، وبخاصةٍ ونحن على أبواب عيدين: الميلاد والأضحى. عيدان يزوران المناطق المحتلة وهي في أسوأ أوضاعها منذ نصف قرن. ميلاد مجيد حزين، بل حزين أكثر من أي عيد سابق، يرفرف على مدينة بين لحم الخاوية من الحجاج والزوار، وعلى ذكرى مسيحها المصلوب، وأحفاده المصلوبين، لا على الصليب الخشبي هذه المرة، بل على صلبان الجوع والعوز ونذر الحرب الداخلية والانتظار المهين أمام محاسيم جيش الدفاع. وأضحى يمرّ على ناس غير قادرين على التضحية بأية أُضحية سوى بأجسادهم هم. فهم أُضحية العالم وضحيته المزمنة منذ نحو ستين عاماً لا أقلّ.

وهم منذ ذلك التاريخ الأسود، تاريخ ولادة التراجيدا الفلسطينية، لم يعرفوا معنى الترتيلة العظيمة، ترتيلة سيدهم ومخلّصهم ونبي المحبة والتسامح والغفران [ المجد لله في الأعالي وعلى الأرض المسرّة وفي الناس السلام ] فهم ما رأوا المجد سوى لجنرالات الحرب الإسرائليين الصغار، وما رأوا المسرّة سوى بين أوراق إنجيلهم، وما رأوا السلام سوى طيف أو شبح أسود، يلهثون خلفه، في غرفة سوداء صغيرة محكمة الإعتام اسمها فلسطين !

ومع ذلك مع ذلك: عيد ميلاد سعيد للبشرية جمعاء. نداء نطلقه من هنا من بيت لحم مهد سيدنا المسيح إلى أربع جهات الدنيا، وإلى الناس أجمعين، من مسلمين ومسيحيين وبوذيين وهندوس ولا دينيين ولا أدريين، فكلنا أخوة، وكلنا شركاء في عذابات مصيرنا وبؤس شرطنا البشري. لذا...
فالمجد لنا والمسرة فينا وعلى الأرض كل الأرض السلام.