لقراءة الحلقة الأولى: انقر هنا

يعود سبب ذلك إلى:
ـ عجز السلطة في واشنطن عن تلبية احتياجاته كونها متأزمة وغارقة في الديون (تجاوزت بعد عام 2000 الـ 450 بليون دولار) لذا اختطفها وراح يستخدم قواه لتحقيق المزيد من الثروة لتلبية احتياجاته من السلطة ذاتها ويجعلها تدعم وتشتري ما ينتج في مؤسسات التصنيع العسكري.
ـ بيع أسلحته ومنتجاته للدول الأخرى التي يسيطر على حكوماتها الضعيفة (سرقة المجتمعات الأخرى) وفرض إرادته عليها.
ـ إثارة الحروب بين الدول وتغذيتها بالسلاح وتأمين عوائد جيدة لميزانيته.
ـ احتلال دول غنية بالثروات.
ـ فرض اتفاقيات غير متوازنة على الدول الضعيفة يؤمن من خلالها مكاسب مجانية (كالسكوت عن ممارسة السلطة القمعية فيها، ودفع تلك السلطات مبالغ مقابل حمايتها).
ـ أسلوب القرصنة المباشرة لإمكانات الآخرين ودعم مافيا التهريب المختلفة للمخدرات والدعارة والهجرة وسرقة العقول، وزعزعة الأمن في الدول...
ـ الاتهامات المبرمجة للأنظمة تحت شعارات مختلفة (حقوق الإنسان، الحريات..)، ثم قبض مبالغ مقابل السكوت عنها.
ـ استغلال المؤسسات المالية الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي..) من أجل ضبط حركة الأموال وعوائد الديون وخدمتها لصالحه.
العوامل التي سرّعت ظهور السلطة التوليتارية في واشنطن:
1 ـ انقسام البلاد إلى ثلاثة عواصم، أي تبدو وكأنها محاولة لإنقاذ السلطة من الانهيار.
2 ـ عجز السلطة المركزية عن تأمين احتياجات المؤسسة العسكرية التي تضخمت، فاضطرت الثانية للسيطرة على الأولى لتأمين احتياجاتها بنفسها في خطوة لتوحيد أداتي السلطة في أداة واحدة هي الجيش، أي إضعاف للسلطة الذي يبدو وكأنه عنصر قوة لها.
3 ـ اختلال التوازن بين السلطة المالية والعسكرية لصالح الثانية التي انقضّت للحفاظ على مكاسبها، والعمل على استمرار السلطة لأطول فترة ممكنة، يعني ذلك أن البلاد أصبحت مرهونة تماماً للسلطة العسكرية، وأغلب ما يحدث في العالم من أزمات تُدار في كواليس هذه المؤسسة التي تعمل على الاستفادة القصوى منها.
وبانتظار حدوث ـ أزمة كاملة ـ على غرار ما حدث لروما (تنهار سلطة واشنطن وتزاح) على المجتمع أن يستعد لبناء مستقبل جديد يتمتع فيه بسماته كاملة.

قراءة حول انقسام أمريكا إلى ثلاثة عواصم:
العواصم هي:
1 ـ واشنطن : عاصمة عسكرية وسياسية.
2 ـ نيويورك : عاصمة مالية.
3 ـ لوس أنجلوس : عاصمة معرفية.
كانت تُدار أمريكا من خلال واشنطن التي تتحكم بكل شيء وتتمتع بمركزية هي التي هيأت الظروف لخوض ثلاثة حروب كونية في القرن العشرين: حرب كونية أولى وحرب كونية ثانية وحرب كونية باردة.. هذه الحروب مكنتها من إخضاع بقية عواصم الولايات والمدن والأطراف لها، وهي التي قادتها إلى تشكيل كتلة عسكرية ضخمة في ظاهرها مقوية وداعمة لها، لكن في جوهرها هي التي ستدمرها.
تشكل العاصمة واشنطن معقل العسكريين الذين استولوا على السلطة بانقلاب عسكري سلمي بعد عام 1990م، ولم يكن أمامهم إلا أن يفعلوا ذلك (هي مرحلة هامة من مراحل موت السلطة) تحت ضغط مطالبهم المتزايدة للثروة والمال، وبما أن العاصمة المالية أصبحت مرتبطة مالياً مع عواصم المال في الخارج ومع الزبائن في الداخل متحررة من مطالب السلطة، لأن لعبة المال قد تغيرت في غير اتجاه، ولم تعد مرتبطة أصلاً بنيويورك وحدها، فأصبح المال (ذبذبات الكترونية متحركة بضغط الأزرار ـ أشبه بالغاز الطيّار) ينتقل من عاصمة لأخرى، لا يمكن ضبطه وبالتالي استحالة الاستحواذ عليه من قبل أحد أياً كان (هذه مرحلة من مراحل عودة ما أنتجه المجتمع إليه، وذلك بتحول الثروة إلى شكل رمزي مضبوط في إطار المجتمع، وإلى كميات معرفية ـ خدمية ساهمت لوس أنجلوس في تطويرها، لتصبح في حالة من اللاتمركز وغير خاضعة للعاصمة علماً أن مُنتجها يمثل القيمة الأساسية لتداول رأس المال الكوني، وهو مرتبط أساساً بالمجتمع، لذا لا يمكن الاستحواذ عليه من قبل السلطة).
تحول في بنية الثروة، والصعوبة في السيطرة عليها، هو عامل إضافي دفعها إلى الانقلاب السريع على السلطة في واشنطن، والبحث مباشرة عن أماكن للثروة لا تزال في حالة تمركز ويمكن الاستحواذ عليها واستغلالها، فلم تتوفر هذه المصادر إلا في مناطق لم تسمح السلطة (سلطة مركزية) فيها بتحول ثروتها من الحالة الصلبة (مواد خام، مواد زراعية...) إلى اقتصاد رمزي يرتبط بالاقتصاد العالمي ـ أي لم تطلقها لتتفاعل مع اقتصاديات العالم الأخرى من خلال الذبذبات الالكترونية، والثروة المعرفية، والثروة الخدمية، ونقل الاقتصاد من الجمود إلى التحرك، فبعد أن أنجزت انقلابها في واشنطن اضطرت وبسرعة للاستيلاء على ذلك الخارج الذي لم يلحق بعد بركب التغيرات الجديدة وليكون هدفاً سريعاً ومباشراً لهذا الجوع التوليتاري (استخدمت الإرهاب ككذبة تؤدلج بها الداخل كي تسوقه معها إلى معركتها التي هدفها الجوهري النهب الاقتصادي) مبرراً لذلك، وهي محاولة حتمية وسريعة منها باتجاه إنقاذ نفسها، وكمحاولة أخيرة للضبط والسيطرة على العواصم الثلاث المنفصلة، وسيكون أداء السلطة العسكرية على النحو التالي:

أ ـ مستوى الداخل:
ـ القمع (لأول مرة تتشكل وزارة للأمن الدخلي مؤلفة من أكثر من 190 ألف قامع هدفها خلق بيت طاعة للأمريكيين).
ـ النهب (ارتفاع مستوى الضرائب والمديونية العامة، والمزيد من إفلاس الشركات الكبرى...).
ـ التدمير (بكل أشكاله الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ألا يعتبر جعل الناس يؤمنون بالتفوق على غيرهم قتلا لهم؟).
ـ عسكرة كل شيء (بالمقابل ماذا يقدم العسكر للوطن؟).

ب ـ مستوى الخارج:
ـ محاولة الاستيلاء على عواصم المال ودفعها لمشاركتها في مغامراتها العسكرية، خاصة تلك التي توجد لها فيها قواعد عسكرية (اليابان، ألمانيا، كوريا الجنوبية، الخليج العربي..) هذا يعني حروباً كونية جديدة.
ـ ضم وإلحاق بعض المناطق الغنية (مناطق نفوذ غنية بالثروات).
ـ ردود فعل من دول قوية لحماية مصالحها، يعني فتح جبهات جديدة للصراع بأشكاله المختلفة (اقتصادية، فكرية، عسكرية...) وبالتالي حدوث تدمير متزايد ستكون أثمانه باهظة.
ـ محاولة استخدام السلاح النووي (بشكل محدود أو واسع) في لحظات المواجهة الحرجة، وهنا لابد من جبهة الداخل المتضررة أن تفعل شيئاً.
ـ تدمير المؤسسات الدولية.
سيرافق ذلك تصاعد في وتيرة المشاكل وبالتالي المزيد من الخراب قبل أن يعلن سقوط العاصمة واشنطن بشكل رسمي، ومع أنه في الحقيقة قد تم منذ لحظة دخول التوليتاريين بغداد، لأنهم قدموا خدمة مزدوجة في تلك اللحظة:
ـ كشفوا عن ضعفهم العسكري والاقتصادي والأخلاقي وعمقوا كراهية العالم كله لهم وهذه خسارة لن يتمكنوا من تعويضها أبداً.
ـ حرروا العالم من نظام سياسي يمنع بقعة جغرافية هامة من العالم التواصل مع الآخر لتمسكه بآليات العمل الاقتصادي والاجتماعي الممركزة (توجد قوة كونية هائلة تدمر التمركز ساعية باتجاه بناء القرية الكونية) وهذه خطوة استراتيجية هامة جداً نحو تعميق التواصل الاجتماعي الكوني، وهو في الوقت نفسه يضرب بالعمق المشروع التوليتاري التوسعي في واشنطن (من حيث لا تدري السلطة ـ باحتلالها بغداد ـ وضعت إسفينا جديداً في نعشها) لماذا بغداد؟
هذا السؤال الهام يطرح نفسه كجواب على ما تعانيه سلطة واشنطن، وأعتقد أن تسرع السلطة التوليتارية في الهجوم على بغداد هو خطوة حتمية منها بغية إنقاذ نفسها من أزمة اقتصادية محدقة كون بغداد تؤمن لها:
1 ـ الثروة الصلبة (مواد خام من النفط وغيره..).
2 ـ نظاماً سياسياً مهترئاً يمكن إسقاطه بتكاليف أقل.
3 ـ محاولة ضبط الداخل وتخويفه الذي بدأ يعلن تململه من هذا النظام التوليتاري ـ العولمي عبر انفلات العواصم من قبضة واشنطن لصالح ما هو معرفي ومجتمعي.
4 ـ دعم المؤسسة العسكرية المتخمة بالسلاح (تفريغ مستودعاتها) عن طريق بيع ما لديها للسلطة والاستفادة من العوائد في صناعات جديدة.
5 ـ الهدف السهل بسبب أخطاء السلطة في بغداد لعدم تمكنها من قراءة ما يحدث عالمياً وربط ثروتها بمؤسسات تحول الثروة من صلبة إلى ذبذبات إلكترونية (كانت ستحميها، لأن هذا العدو الكوني كان لن يفكر باحتلال بلد لا توجد فيه ثروة)، ولم تعمل على تخليص نفسها من المركزية المطلقة ـ الدكتاتورية.
لقد وقعت السلطة التوليتارية في واشنطن بالخطأ كون ما ستدفعه جراء احتلالها للعراق سيكون أكبر بكثير مما ستكسبه، وستكون عقوبتها أكبر من المتوقع، كما يُفترض البحث عن أهداف غنية توفر لها احتياجاتها (ألمانيا، سنغافورة..) الغنية والضعيفة عسكرياً، يتجه عادة النظام الإمبراطوري نحو المناطق التي تؤمن له ما يحتاج (كميات هائلة)، لكن بنية الاقتصاد المتغيرة في مثل هذه البلدان لا تسمح لها بذلك، وهي الآن غير قادرة على مواجهة الأعداء الذين صاغتهم بنفسها عبر مراحل تشكلها، وهم الآن أقوى منها بكثير.
أعداء سلطة واشنطن:
كما ذكرت أعلاه إن السلطة في لحظة تشكلها تخلق قاتليها وحفاري قبرها ولا يمكنها أن تفلت من ذلك أبداً:
1 ـ الطبيعة هي العدو الأول، كون السلطة تتجاوز أية علاقة مدنية أو أخلاقية بها، لذا تقوم بهجمات ارتدادية جبارة من خلال:
ـ عدم كفاية (نفاد مواد الخام بسبب الاستهلاك العشوائي) ما في جعبتها من ثروات تكفي حاجات السلطة المتزايدة.
ـ الجفاف والتصحر والفيضانات، وحرائق الغابات والزلازل، وتهالك التربة..
ـ ارتفاع درجة حرارة الأرض.
ـ مشاكل البيئة المختلفة واختلال توازنها (ثقب الأوزون، تدمير الحياة البرية، تلوث المياه...).
2 ـ المجتمع:
* ـ مجتمع الداخل، انتقل من مرحلة المستسلِم للسلطة إلى مرحلة المواجهة معها عندما اكتشف أنها تستنزفه وتصادر مكاسبه المختلفة، فانتقل إلى جبهة الضد، وأسباب اندفاعه لمواجهتها:
أ ـ تعجز عن حل مشاكله المختلفة من بطالة (تتجاوز نسبة البطالة الـ 6%)، وتعليم (ارتفاع نسبة الأمية) وفقر (يبلغ عدد الذين يعيشون تحت خط الفقر أكثر من 30 مليون شخص) وصحة (انتشار الأمراض المختلفة والأوبئة في الأحياء الفقيرة)، وتفرقة بين أبيض وأسود (لم يتمكن زنجي حتى الآن من الوصول للبيت الأبيض، ولن يتمكن إلا في إطار يكون المجتمع هو القائد)..
ب ـ تدفع به إلى معارك خارجية لا ناقة له بها ولا جمل، ويدفع الأثمان غالية من دمه وروحه دون مقابل (ازدياد عداوة الآخر له).
ج ـ تنهكه أمنياً وتبقيه في حالة من الاستنفار والخوف والتصادم، وهذا يتناقض مع فطرته وقيمه.
د ـ يحدث لديه صحوة ووعي لما يدور حوله جراء نهب السلطة له، ويكتشف أنها عدوته وليس الآخر الذي هو أخوه، مما يدفعه للوقوف مع المجتمع المستهدَف ضد السلطة، أي يتمرد جراء عجزه عن تلبية احتياجاتها للتوسع (جيش، جنود أمن وإدارة، وسائل إعلام ودعاية، خدمات...)، فيدفع إلى المقاومة التي تتجلى:
ـ بالتمرد على السلطة (عدم دفع الضرائب، الإضرابات، المطالبة بدفع الأجور وتحسين الأوضاع الاقتصادية، تحديد ساعات العمل، الحفاظ على البيئة...).
ـ التوسع العبثي ـ اللامحدود للسلطة يجعل المجتمع تلقائياً عاجزاً عن تلبية احتياجاتها، وهذه أكثر أشكال المقاومة جدية. فتضغط عليها بوسائل بوليسية وغير بوليسية كي تدعم أهدافها عبر صراعات ليست في صالحها.
* ـ مجتمع الخارج: يندفع هذا المجتمع الذي تشكل منذ اللحظة الأولى لتشكل نواة السلطة الناشئة للمواجهة باعتبار أنه مستهدف من قبلها، وتعمل على تحويل كمونه لصالحها بكل الوسائل المباشرة وغير المباشرة (مجرد الاستحواذ على خيرات الطبيعة وعدم إعطائها فرصة تجديد ذاتها وضمان استمرار التوازن البيئي وضع العالم كله في جبهة واحدة ضد السلطة التوليتارية في واشنطن التي تنتهك كل ما هو كوني وإنساني بفظاظة لم يشهد مثلها التاريخ)، مما جعل السلطة ذاتها تطرح السؤال بجرأة: لماذا يكرهوننا؟ وهذا السؤال جوهري وحقيقي فالمجتمعات بالكامل تكره السلطة في أمريكا ولا تكره المجتمع الأمريكي الذي هو مع الجميع في المعركة نفسها ضد سلطة واشنطن وضد أي سلطة لا تحقق شروط المجتمع بأن:
ـ تكون خادمة له.
ـ منفذة لضوابطه وأهدافه.
ـ تنسجم بالمطلق مع سماته الفطرية.
ـ لا يوجد لديها أداتا الثروة والسلاح ولا يكونان هدفها.
كما أشار ميشيل فوكو إلى ضرورة فك الارتباط بين السلطة وقوتها: quot;ما نحن بصدده هو التالي: ما السبيل إلى فك الارتباط بين نمو القدرات (القابليات) وتكثيف علاقات القوة والسلطةquot;.
هذه هي شروط السلطة التي تلبي حاجة المجتمع ولنا عودة للحديث بمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع الأساسي.
3 ـ طبيعة السلطة ذاتها: طفيلية وعاجزة عن توليد كمونها الخاص الذي تستند إليه في استمرارها، وعجز الآخر أياً كان عن تلبية احتياجاتها اللامحدودة، وبشكل مباشر تتصرف كمتطفل يحاول إخضاع الآخر كي تتمكن من امتصاصه (درا كولا) ويأتي تدميرها لذاتها من خلال:
ـ عسكرة ما تنهبه بغية إحكام السيطرة على المقاومة الداخلية والخارجية.
ـ التراكم المتزايد يحرم المجتمع من تجديد نفسه، وبالتالي تعميق أزمتها معه، وبالتالي سقوطها.
ـ لا سلطة دون توسع، ولا توسع دون صراع الذي يعني أزمة دائمة، وبالتالي سقوطها.
يتضح تلاقي مجتمع الداخل (الأمريكي) مع الخارج (العالمي) الذي يتبلور الآن من خلال منظمات المجتمع المدني، والمنظمات غير الحكومية، والمنظمات الحقوقية، والجمعيات الخيرية، والمؤسسات النقابية وغيرها التي تكتسب بعداً كونياً لم يعد بإمكان سلطة واشنطن مواجهتها أو قمعها، لأن المجتمعات بدأت تُهجن عرقياً وثقافياً وأخلاقياً ودينياً، وتكسر الحدود والحواجز بوسائل كثيرة منها الهجنة، والهجرة، وسائل الاتصالات المختلفة، وولادة القرية الكونية، وتبادل هائل للمعلومات، وفقدان الهوية القومية التي عملت على تنميتها، والتطور التقني المتسارع وتحول الاقتصاد شيئاً فشيئاً من التمركز إلى التماهي مع المجتمعات التي أصبحت هي الأساس في إدارة الاقتصاد المعرفي والخدمي وحتى الكمي (سلع ومواد استهلاكية وأولية مختلفة...).
تواجه هذه العوامل المشروع الإمبراطوري الأمريكي الذي لا يريد الاستسلام، بل لا يستطيع كما هو واضح من محاولاته المستمرة الاعتداء السافر على المجتمعات الضعيفة واضعاً رأسه في الرمال دون قدرته على فهم ما يجري كونياً، وهو يعيش حالة انحدار متسارع، ويستنزف في عملية المواجهة هذه آخر ما تبقى لديه مما سرقه عبر أربعة قرون منذ تشكله وحتى هذه اللحظة، فأداته الوحيدة التي يستخدمها ويدافع بها عن نفسه ويستخدمها للضرب وللقمع، وهي الأداة التي يعتز بها فيلسوف هذه السلطة المتهاوية والحاقد على الإنسانية بامتياز ـ توماس فريدمان ـ أداة العسكرـ وكما هو معروف فإن هذه الأداة تقوم على النهب والسرقة، ولن يكون لها دور في عالم الغد، عالم مدجج بكل وسائل المقاومة التي نضجت، ولم يعد أمامنا إلا الاستعداد لدفن سلطة واشنطن، والذي يتجلى ضعفها الرهيب بمحاولاتها استخدام الغير للدفاع عنها كما فعلت في حربها على أفغانستان وتملصت من إعادة إعمار ذلك البلد، وتجلى تقهقرها في حربها على العراق وسعيها الدائم في كل معركة خارجية لها من أجل جمع الثروة وتوريط الآخرين بما تعجز عنه.
قد يسأل سائل، ما المؤشرات التي تدل على سيطرة التوليتاريين على السلطة؟
والجواب هو:
ـ عدم الاكتراث بالمطالب الداخلية والخارجية لاحترام الطبيعة وهي تتصرف كسلطة مطلقة (مدججة بالسلاح) تستند إلى مبدأ القوة في رفضها التوقيع على اتفاقية كيوتو وغيرها التي تدعو لتخفيض انبعاث غاز ثاني أوكسيد الكربون من الأرض (تتمثل قوتها المطلقة في تدمير كوكب الأرض).
ـ تنصرف في الداخل كقوة مطلقة وقامعة لأي تحرك يكبحها من أداء مهامها (كابحة الصحافة ووسائل الإعلام، وانتشار الثقافة الاجتماعية..)، وتحوّل المؤسسات الدستورية إلى مؤسسات صورية، وهذا ما لاحظناه بوضوح خلال أزمة العراق.
ـ عندما يبلغ الحد مصالحها تفقد صوابها ولا تستطيع أية مؤسسة (داخلية أو عالمية) كبحها.
ـ تلجأ إلى العنف والقوة بسرعة لا مثيل له في تاريخ الأزمات، والسبب لا توجد قوة حقيقية قادرة على ردعها، وهذا مؤشر على استحواذها على السلطة بشكل توليتاري.
رغم ذلك فإن المصير البائس الذي تتعرض له سلطة واشنطن لا يختلف عن أي مصير سلطة سقطت في التاريخ، والآن هي تحصد ما زرعت.
إليكم هذا الجدول الذي يبين بعض المقاربات الزمنية بين التحولات في سلطتي روما وأمريكا:

تأسيس روما 753ق.ماكتشاف أمريكا 1492م
ـ قيام الجمهورية بعد 244 سنة من التأسيسـ استقلال أمريكا وقيام الجمهورية بعد 284 سنة من الاكتشاف
ـ بعد 489 سنة بدأ التوسع وضم قرطاجـ بعد 308 سنوات بدأ التوسع وضم تكساس من المكسيك
ـ بعد 710 سنوات قامت حرب أهلية داخليةـ بعد 381 سنة قامت حرب أهلية أمريكية بين الشمال والجنوب
ـ بعد 726 قامت الإمبراطوريةـ بعد 421 سنة بلغ التوسع الإمبريالي أوجه
ـ انهارت روما بعد 1229 سنة من تأسيسها وانهارت بيزنطة بعد 2206 سنة على تأسيس روما وكان انقسامها بعد 1148 سنةـ بعد 488 سنة انشطرت أمريكا إلى ثلاثة عواصم: عسكرية، مالية، معرفية.

ماذا يمكن أن نستنتج من هذه المقارنة؟
1 ـ احتاجت روما كي تقيم جمهوريتها وتحقيق الثروة اللازمة لذلك إلى 244 سنة وتميزت تلك الفترة بطرد الاترسكانيين ثم استغلال عنيف للمزارعين والعبيد والمحاربين، واحتاجت أمريكا تقريباً إلى نفس القوة الزمنية حيث قامت بإبادة السكان الأصليين واستقدام العبيد واستغلالهم، فبنية التأسيس متشابهة واحتاجت إلى المدة نفسها كونهما اعتمدا على الزراعة.
2 ـ احتاجت روما إلى التمكن من الانطلاق إلى خارج حدودها إلى 479 سنة، بينما التطور التقني وأدوات الجيش من سفن ومدافع وأسلحة متطورة قلص الفترة الزمنية لانطلاقة أمريكا إلى 180 سنة.
3 ـ بدأت الحرب الأهلية بعد وصول التوسع إلى مرحلة حرجة وحدوث انقسام مجتمعي أدى إلى حرب أهلية احتاج إلى 710 سنوات، بينما الحرب الأهلية حدثت بعد 421 سنة بفارق 289 سنة، حيث التسارع في إنتاج الثروة أكثر والانقسام الطبقي أسرع الذي أدى إلى تغييرات في البناء الاقتصادي للسلطة باتجاه التمركز وإحكام السيطرة والانتقال إلى مرحلة يكون عنوانها العريض ـ التحكم ـ والقدرة على ضبط إنتاجية المجتمع، لذا كانت الفترة أقصر.
4 ـ بعد الحرب الأهلية الرومانية ـ انهارت الجمهورية وولدت من رحم الصراع الإمبراطورية على يد أول إمبراطور ـ أوغسطس ـ ومع خلاف في التسمية فقط، جلبت الحرب الأهلية الأمريكية إمبراطوراً تحت مسمى جمهوري ـ تيودر روزفلت حيث تحولت الجمهورية ـ ذات المبادىء الانعزالية إلى إمبريالية، لا إلى أرض لمجرد الرغبة التي فشلت أوربا في تحقيق مركزيتها التاريخية كأمة رائدة حضارياً حسب تعبير هيغل، وحتى منطق التحكم الحضاري الذي رآه فيها اليكس دو توكفيل أصبح عبئاً كونياً، لأن التوجه الإمبريالي مَثل نقله مدمرة لأمريكا ووضعها في تناقض داخلي وخارجي وانتقل إليها تشخيص نتشه quot;أوربا مريضةquot; لتصبح quot;أمريكا أكثر مرضاًquot; حسب تشخيص بول كنيدي (على صناع القرار في واشنطن أن يواجهوا ويتحملوا حقيقة أن مجموع المصالح والالتزامات الكونية لأمريكا أصبحت اليوم أكبر بكثير مما بوسع البلد الدفاع عنها جميعاً في وقت واحد)(5).
ويلخص وضع الدول التي كانت رقم واحد وأستطيع الإضافة بثقة والدول الساعية لأن تكون رقم واحد لها نفس المصير.
(مصير البلدان quot;رقم واحدquot; السابقة هو التورط بأنه بينما كانت قوتها الاقتصادية في طور الانحطاط، اضطرتها التحديات الخارجية المتعاظمة إلى تخصيص مزيد من مصادرها للقطاع العسكري، وهذا ما يضغط بدوره على الاستثمار الإنتاجي، فيفضي بذلك على مدى الزمن إلى تخفيض النمو ورفع الضرائب واحتداد النزاعات الداخلية بشأن أولويات الإنفاق مع إضعاف القدرة على تحمل أعباء الدفاع)(6).
5 ـ انسجاماً مع قول بول كنيدي الأخير واتضاح الرؤيا بالنسبة لبنية الإمبراطوريات من صعود وهبوط وإن كنت ضد فكرة المبدأ الدوري: بداية ـ قمة ـ نهاية والذي دعمه بوليبوس وتيوسيديد وتاسيتوس، فإن الواقع يؤطر لحالة منطقية في قراءة نظام الإمبراطوريات وبنيتها، التعمق في تناولها تحليلاً ودراسة ووضعها في مختبر القراءة المعاصرة كي نتخلص من حالة الانهيار، ونتخلص من الثايكية ـ الحظ والقدر في أمور لم تعد تحتمل المغامرة، وإن استفادت روما من لعبة اللامركزية في الإدارة وتسهيل حكم الأطراف عبر مؤسسات ليبرالية كما نسميها نحن بلغة اليوم، فقد منحت الإمبراطورية عمراً أطول بلغ 1229 سنة بتحقيقها نوعاً من التوازن بين القوة العسكرية والثروة (الثروة سلاح لدعم القوة العسكرية والقوة العسكرية ثروة مكتنزة تتيح الحصول على الثروة وحمايتها)(7).
هذه الليبرالية كحالة تناظرية مع الليبرالية الأمريكية أطلقت بوضوح في عهد ريغان وأفضت إلى نظام سوق حر ـ الخصخصة ، وانطلاقة مفتوحة للشركات المتعددة الجنسيات كوسيلة لفتح ثغرة أمام التشكل الإمبراطوري وانطلاقة جديدة، أدت خلال عقد من الزمن إلى ولادة انقسام أمريكا إلى ثلاثة عواصم، وهي الآن ليست في موقع التحكم، كما كانت عليه بعد الحرب العالمية الثانية، وتعاني من عجوزات في تبادلها التجاري (مع الصين 83 مليار دولار، ومع اليابان 86 مليار دولار، ومع أوربا 60 مليار دولار، وينتقل فائضها التجاري في مجال التكنولوجيا العالمية من 35 مليار عام 1990 ليصبح سلبياً في كانون الثاني 2002)(8).
أصبح من الواضح أن الطموح الإمبراطوري برمته دخل في نفق رسمه المؤلف عمانوئيل تود في عمل quot;بعد الإمبراطورية: قراءة في تفكك النظام الأمريكيquot; الذي كشف فيه بالأرقام عن واقع أمريكا ويبّن افتقارها لمقومات القوى العظمى، فهي تنتج حالياً 22% من ناتج الدخل الإجمالي العالمي وتشكل الخدمات 75% من الناتج القومي الأمريكي، وهي تدخل في المحاسبة القومية ولا تدخل في المحاسبة العالمية، وبات الناتج الصناعي أدنى من الناتج الأوربي بقليل وأعلى بقليل من الناتج الياباني بعدما كان بعد الحرب نصف الإنتاج العالمي، وأصبح الميزان التجاري سالباً منذ مطلع السبعينات بعدما كان موجباً حتى نهاية ستينات القرن الماضي.
ارتفع العجز التجاري من 100 مليار عام 1990 إلى 450 مليار عام 2000 ولا يمثل بند النفط في هذا العجز سوى 80 مليار دولار.
إذن الكلام واضح عن الحال الذي وصلت إليه سلطة واشنطن، والسقوط الهادىء الذي تترجمه لأرقام تكشف عن عمق الأزمة التي تمر بها، وعلى العالم أجمع التعامل معه، لا وفق مصالحه الذاتية، وإنما وفق مصالح كونية، وهذا ممكن جداً، وعلينا أخذ العبر.

المراجع:
(4) ـ مايكل هاردت، المصدر السابق نفسه، ص 306.
(5) ـ بول كنيدي، نشوء وسقوط القوى العظمى، ترجمة مالك البديري.
(6) ـ بول كنيدي، المصدر السابق نفسه/ ص 809.
(7) ـ بول كنيدي، المصدر السابق نفسه/ ص 22.
(8) جريدة الحياة ـ العدد /14479/.

د. أسد محمد
كاتب سوري
[email protected]