خلال ثلاثين سنة، استطاع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد ( 1970 - 2000 ) تجميد الأزمة الداخلية عند نقطة معينة، نقطة هي أقرب إلى التأجيل منها إلى الحل. فالحل يكاد يكون مستحيلاً في ظل أنظمة الحزب الواحد، لأن الأحزاب الانقلابية أساساً هي من انتاج الأزمة وظواهرها ولم تكن في أي بلد في العالم، من أدوات الحل. والسبب يكمن في جوهر الثقافة الانقلابية التي تنظر للدولة بصفتها غنيمة وليست طرفاً دستورياً محايداً كما هو الحال في الأنظمة الديمقراطية. وهذا ما يفسر تكرار ظاهرة الانقلابات والانقلابات المضادة في البلدان التي ابتليت باستفحال ظاهرة الأحزاب الانقلابية كما هو الحال في سورية والعراق. أن عبقرية الأسد وصدام حسين اللذين أوقفا ظاهرة الانقلاب المضاد، لا تكمن في إيجاد حلول للأزمات عبر المشاركة ومشاريع التنمية الحضارية والديمقراطية، بل في تحويل ممارسة الاغتصاب السياسي واستعباد المواطنين إلى ثقافة رسمية والقيام (بعمليات انقلاب مضادة ) على أية معرضة جادة، من موقع السلطة وقبل أن تتبلور تلك المعارضة وتملك زمام المبادرة.

أن أنظمة الحزب الواحد لا تفكر بحل الأزمات الداخلية، لماذا ؟! لأنها لا تستطيع أن تفعل ذلك، لأن وجودها بحد ذاته هو تمظهر لمجموع تلك الأزمات. وإذا كان قفزها إلى السلطة عن طريق الانقلاب والمؤامرة هو نتيجة لتراكم الأزمات وانسداد أفق الحل، فإن هيمنتها على السلطة واستئثارها بجميع الامتيازات أصبح السبب الأساسي في إعادة إنتاج الأزمة واستمرارها.

لا تفكر أنظمة الحزب الواحد، أنظمة المخابرات والديكتاتورية، بحل الأزمة لأن هذا يعني أنها يجب أن تحل نفسها، وهي تعي ذلك جيداً، أنها غير مشغولة بالحل أساساً، بل مشغولة دائماً بالجواب على السؤال التالي : ما هي القوى أو الجهات التي تعمل على إسقاطنا ؟! أو أنها تشكل تهديداً لوجودنا في المستقبل ؟! ما هو حجمها وما هي إمكانياتها ؟! هنا يكمن قلقها وهاجسها الأساسي، وهذا ما يفسر اعتمادها الكلي على الأجهزة الأمنية والمخابراتية حيث تنفق عليها المزيد من الأموال التي تفوق ما يُنفق على أية وزارة أو مؤسسة علمية أو خدمية، علماً بأن هذه الأجهزة لا تُنتج سوى برامج القمع والبشر المشوهين الحاقدين على أبناء بلدهم، هذه هي مهمتهم التي يتقاضون رواتبهم على أساسها !! أي أن تلك الأجهزة تُنهك اقتصاد البلاد وتعيش عالة على المجتمع ومهددة باستمرار قواه الحية أو أية معارضة يمكن أن تلوح في الأفق.

والأكثر من هذا نستطيع القول فيما يخص الوضع في سورية، أن الأزمة تبدو مسدودة من الجانبين، أي من جانب النظام ومن جانب المعارضة الحزبية الراهنة !! كيف ؟! المعارضة السورية في غالبيتها هي أحزاب انقلابية سبق لها وأن فشلت في الاستيلاء على الدولة فيما نجح حزب البعث في ذلك، نجح حزب البعث ليفشل المجتمع منذ ذلك الحين في استرداد حريته وحقوقه !! ولو نجح أي حزب ثوري آخر يساري أو ديني في استلام السلطة قبل حزب البعث لفعل الشيء نفسه، أي لأعاد إنتاج الأزمة بأشكال وشعارات مختلفة لكن جوهر المشكلة سيبقى كما هو. فالثقافة الانقلابية هي ثقافة إرادوية تهيمن على أدوات السلطة من أجل السيطرة على الدولة والمجتمع، وأول نتيجة لهذه العملية الانقلابية هي مصادرة حقوق المواطنين المدنية والسياسية ولكي تستمر هذه المصادرة يتم إعلان الطواريء بذرائع مختلفة. لذلك فإن البيان الأول في كل انقلاب يتضمن فقرة لإعلان منع التجول حتى إشعار آخر !! هذا الإعلان هو البداية الصريحة لأزمة عدم الثقة بين سلطة الانقلاب وبين المجتمع المغلوب على أمره.
هذه المفارقة، أي مفارقة التشابه بين ثقافة الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة في سوريا هي سبب أساسي من أسباب إطالة الأزمة سواء في الربع ساعة الأخيرة التي يعيشها النظام الآن أو في الفترة الأولى بعد سقوطه. نظام ساقط سياسياً وأخلاقياً لكنه يماطل لإطالة لحظته الأخيرة. ومعارضة مقموعة ومشتتة تريد مواجهة نظام ديكتاتوري مارس كل أنوع الشراسة والبطش ضدها، لكنها لا تعرف من أين تبدأ !! حيث يجب أن تبدأ من تغيير طابعها الأيدولوجي الأحادي الجانب إلى المباشرة بإدخال مفردات الثقافة المدنية الديمقراطية إلى أدبياتها. الثقافة المدنية التي ينبغي أن تكون هوية النظام البديل، أي أن على الأحزاب السورية أن تتأمل الصعوبات التي تعانيها الأحزاب العراقية الآن لنفس السبب وتستفيد من أخطائها عملياً كي لا نتحول إلى شعوب هوايتها إطالة الأزمات !!

الأزمة يمكن أن تنتهي عندما تكون هناك أحزاب مدنية ديمقراطية تمثل القوى الحية للمجتمع السوري. فما هو تفسير غياب مثل هذه الأحزاب ؟! السبب هو إن الديكتاتورية عندما يطول بها الزمن تقوم بتفكيك القوى الحية وتشويه البنية الطبيعية للطبقات الاجتماعية، فتنشأ جراء ذلك فئات مشوهة مرتبطة بالسلطة من جهة، دون أن يكون لها موقع في مراكز القرار، ومرتبطة بالمجتمع من جهة أخرى دون أن تكون ممثلة لطموحاته ومصالحه الحقيقية !! وفي النموذج السوري نجد ذلك واضحاً في البرجوازية البيروقراطية التي نشأت في ظل هيمنة الحزب الواحد لتضطلع بمهمة قبض العمولات والسمسرة لمصلحة المسؤولين الكبار الذين حولوا الدولة إلى أداة لتنمية مصالحهم الشخصية. البرجوازية البيروقراطية غير المنتجة وفي مقدمتها أجهزة الأمن والمخابرات والأجهزة الحزبية التي أنتجت مفاهيمها وثقافتها الخاصة، ثقافتها أو دباقتها السياسية التي لن تسمح بسهولة لأحد أن يدفعها لحفرتها الأخيرة التي لا بد منه : مزبلة التاريخ. لن يحدث هذا بسهولة إلا إذا أدركت القوى الحية في المجتمع السوري بأن عليها جميعاً أن تشارك في لحظة الخلاص من الديكتاتورية ومن أشباح الديكتاتور التي ما تزال تتجول في شوارع دمشق منذ عشرات السنين..

أن مظاهرة دمشق الأخيرة ذات الطابع السلمي المطالبة بإنهاء العمل باحكام حالة الطواريء المفتعلة والتي كرست الطابع العسكري المخابراتي للسلطة، والتي لا مبررات قانونية أو سياسية لها، حيث اعتدي على المتظاهرين من قبل جلاوزة السلطة بثيابهم المدنية ووجوههم الكالحة ذاتها. هذه المظاهرة الصغيرة بحجمها والكبيرة بدلالاتها، هي البداية الحقيقية للأنتفاضة الشعبية السلمية التي لا بد أن تتصاعد لتعم البلاد بأسرها، هذه المظاهرة هي تحدٍ حقيقي للسلطة والمعارضة معاً، تحدٍ للسلطة لأنها دلت عملياً على فشل سياسات القمع والبطش الجماعي، أي أن من المستحيل على هذه السلطة أو سواها أن تكسر شوكة الشعب السوري الذي مهما كتم في داخله من هموم وأحزان لا بد أن يطلق صرخته الأخيرة التي ستعصف بالقتلة واللصوص الرابضين على صدر دمشق من أربعين عاماً.

وهي تحد للمعارضة أيضاً كي لا تظل أسيرة للشعارات والبيانات، بل عليها أن تنزال إلى الشارع لتثبت وجودها الفعلي، ولكي تعلن عن البديل الديمقراطي : دولة القانون والمشاركة على أساس المواطنة والتبادل السلمي للسلطة وإلا فإنها ستخسر دورها ومبرر وجودها. أن من يمتلك زمام المبادرة هو من سيكون في واجهة الأحداث، والأحداث بحكم الضرورة ستنتج من يقودها ويوجهها إذا غابت المعارضة، على المعارضة كي تثبت بأنها معارضة حقاً، أن تحمل رايات الشهداء وتنزل إلى الشارع لمواصلة المسيرة ودفع ثمن الحرية والكرامة الذي لا بد من دفعه كي يزول الليل وأشباح الليل عن مدن سورية وأريافها الحزينة..