نشأت فى أحد الأحياء الشعبية القديمة بالقاهرة، وكان أشد ما يمتنعنى هو أن أنزل والعب مع أصدقاء الحارة، ومن حين لآخر كنا نلتف ونتحولق حول الحاوى المتجول الذى يخرج اللهب من فمه، ويدخل سيفا طويلا إلى جوفه، أو يخرج أرنبا من طاقيته أو يخرج بيضة من خلف إذن أحد أطفال المشاهدين، وكنا أيضا نشاهد القرداتى والذى يصحب معه قردا مدربا يقوم بأداء مسرحى ل quot;نوم العازبquot; و quot;عجين الفلاحةquot; و quot;ووش حماتىquot;!!، وكان يمر بالحارة أيضا quot;عازف البيانولاquot; ليعزف لنا ألحانا جاهزة من صندوقه الساحر، وأيضا كنت أستمتع بعازف الناى الحزين وعازف الربابة الباكى حيث كانا يعزفا ألحانا بدائية جميلة، وكانت هذه المتع هى أهم المتع المجانية فى حياتى، وإن كانت لا تخلو من تنغيص وخاصة عند نهاية عرض الحاوى وقبل تقديم نمرته الكبيرة (ماستر بييس) حين يبدأ الحاوى فى جمع التبرعات من الأهالى فى طاقيته أو منديله، وعندها كانت تصيبنى حالة من تأنيب الضمير حيث لم يكن معى كطفل من النقود ما أتبرع به وتصعب علىُ نفسى أننى أشاهد كل هذه العروض مجانا، وكنت أسعد كثيرا عندما كنت أرى كرم الأهالى حين يبدأون فى دفع مساهماتهم، وكان يعجبنى دعاء الحاوى قبل أن يبدأ فى حملة جمع التبرعات، حيث كان يقول: quot;الله يعمر بيتك يا إللى تمد إيدك فى جيبك وتقول خد ياعم إسماعين، أما إللى ما فيش معاه ولا مليم يكفى إنه يدعى ويقول ربنا يخليك لينا ياعم إسماعين، أما البخيل إللى جيبه مليان فلوس وبخلان علينا منه لله، إلهى وإنت جاهى تسلط عليه حماته تلطش منه فلوسه!!quot;. وكان هذا هو عالم الفن أمام ذلك الطفل الصغير الذى كان يمرح فى بنطلونه القصير أحيانا وأحيانا أخرى فى جلابيته والقباب الخشبى الذى يطرقع بنغمات موسقية (ولا تقوللى لا جزمة نايكى ولا أديداس!!) كنت أستمتع بالموسيقى وبفنون السيرك وألعاب الحواه وفن الأراجوز بدون أن أغادر حارتنا، كنت أشعر أننى أعيش فى مسرح كبير، على رأى عمنا يوسف بك وهبى: quot;ما الدنيا.. إلا مسرح كبيرquot;.

أما متعة المتع فكانت بلا شك quot;صندوق الدنياquot; وهو تليفزيون الغلابة، حيث كنا نقعد على دكة مكسٌرة وندفع نصف قرش نظير مشاهدة quot;صندوق الدنياquot; وهو صندوق كان يحمله الرجل فوق ظهره ويوجد بداخله عدسة مكبرة يدور خلفها شريطا مصورا عليه بعض صور لحكايات شعبية، وكنت أجلس على الدكة وأضع يدي الصغيرتين حول عينيي وذلك لكى أحجز الضوء عنهما وأركز بصرى على العدسة المكبرة، وأستمع إلى صوت الرجل وهو يصف ما نشاهده بالتفصيل: quot;وشوف عندك كمان الزناتى خليفة وأبو زيد الهلالى سلامة، وشوف عندك كمان شمشون ودليلة ...quot; وبالرغم من بدائية quot;صندوق الدنياquot; إلا أننى كنت أشعر أننى كنت داخل هذا الصندوق quot;أحاربquot; بسيف الزناتى خليفة .
وبالطبع هذا المسرح quot;الشوارعىquot; المتحرك كان لا يخلو من النصابين، وكان أشهرهم بالطبع quot;بتوع الثلاث ورقاتquot;، وأذكر مرة أنه كان فى جيبى قروش قليلة إدخرتها من مصروفى وكنت فى طريقى إلى سينما إيزيس بحى السيدة زينب حيث كانت تعرض ثلاث أفلام أمريكية فى بروجرام واحد، وهناك وجدته على مفترق شارعين رئيسين يلعب بالثلاث ورقات، وكان يقول: quot;قرب .. قرب... قرب وأكسب .. القرش يبقى قرشين .. والخمسة يبقوا عشرة .. والنص جنيه يبقى جنيه .. عينك ع الصورة .. فين الصورة .. إذا جبت الصورة تكسبquot; وكان حوله عددا غير قليل من الزبائن، عرفت فيما بعد أن بعضهم يعمل معه!! وحشرت نفسى بينهم بالعافية وكانت قامتى يدوب تطول حافة طاولة الثلاث ورقات، وتوسمت فى نفسى المقدرة على معرفة الصورة، وبعد أن وضع الثلاث ورقات بعد خلطها بمهارة، سألنى: quot; أيوه ياشاطر فين الصورةquot;، قلت له ببراءة وأنا لا أعرف الفخ الذى يعده لى: quot; أهيهquot; ..وأشرت بإصبعي الصغير على كارت الصورة، فقلب الكارت وهو يصيح: quot;عفارم عليك، باين عليك ناصح وشاطر، المرة الجاية حط فلوسك على الصورة، والقرش يبقى قرشين والنص جنيه يبقى جنيهquot;، ووجدت أن الموضوع سهل جدا وقلت لنفسى سوف أغامر بقرش واحد، وفى الدورة التالية بدأ فى خلط الأوراق بسرعة شديدة وركزت إنتباهى تماما على كارت الصورة، وعندما وضعهم على الطاولة، وجدت نفسى وبدون أى تفكير فى العواقب وضعت القرش على كارت مقلوب إعتقدت أنه الصورة، فقلبه فإذا به كارت آخر، وقال لى: quot;لأ خللى بالك، معلهش خيرها فى غيرها quot; ووجدتنى متحمسا، لابد أن أستعيد القرش لأن بدونه لن يكن هناك سينما ولا غيره، وكررت اللعبة وخسرت قرشا آخر، ووجدت رجلا طيبا يقول لى: quot;يابنى روح بيتكم إنت لسه صغير على لعبة الثلاث ورقاتquot;، ووجدت شخصا آخر يقول: quot; سيبه خليه يعوض خسارتهquot; (عرفت فيما بعد أن هذا الشخص يعمل مساعدا لنصاب الثلاث ورقات)، وصدقت بأننى يمكن أن أعوض الخسارة، وركزت بصرى و ذهنى تماما على الصورة وهو يخلط الثلاث ورقات بسرعة عجيبة، ووضعت آخر قرش فى جيبى على الورقة والتى كنت متأكدا أنها الصورة، وفوجئت بأنها لم تكن الصورة، وهكذا خسرت آخر قرش، ورجعت خاسرا وأنا أبكى على خسارة مصروف الأسبوع وعلى ضياع فرصة مشاهدة ثلاث أفلام فى سينما إيزيس، وتعلمت درسا قاسيا ومن ساعتها كرهت المقامرة، وكان من أرخص الدروس فى حياتى بثلاث قروش فقط (يابلاش).

.....
ومن أخف النصابين دما كان quot;عم محمودquot;، وما زلت أذكره تماما حيث كان يقف على كرسى (يستعيره من القهوة) فى وسط الحارة وعلى رأسه طربوش قديم تحته منديل يحمى الطربوش من العرق وكان يرتدى بدلة قديمة (مزيتة) تذكرك بالبدلة التى كان يرتديها فؤاد المهندس فى مسرحية (السكرتير الفنى)، وكان يبدأ عرضه وفى يده كوب ماء يضع فى داخله قطعة معدنية فضية من فئة الخمس قروش ويقول بثقة شديدة بأن: quot; قطعة الفضة أم خمس قروش ستتحول بقدرة قادر إلى عشرة قروش، بس خليك واقف معانا وإنت تشوف بعينكquot;، وكانت رقبتى تشرأب (وتتلوح) وأنا أنظر إلى كوب الماء وأنتظر بفارغ الصبر كيف ستتحول الخمس قروش لتصبح عشرة قروش، وكنت أقول لنفسى: quot;إن كان عم محمود يستطيع أن يحول الخمسة قروش إلى عشرة قروش، ففى إستطاعته أن يصبح رجلا غنيا فى خلال أيام، بأن يضاعف ما يملك فى خلال دقائق ويستمر فى المضاعفةquot; . المهم إكتشفت بعد أن كدت أن أصاب بإنزلاق غضروفى فى رقبتى أن عم محمود يستغل إسطورة تحويل الخمسة قروش إلى عشرة لجذب زبائنه لشراء شربة يطلق عليها quot;شربة الدود لعمك الحاج محمودquot;، ويقول ان هذه quot;الشربةquot; تكفى لعلاج كل الأمراض المعوية، وكان يقول أن كل أمراضنا ناتجة عن ديدان فى المعدة، وأن تلك الشربة كفيلة بالقضاء على تلك الديدان، وكان الكثير من القرويين من زوار القاهرة يصدقونه، وكان عم محمود يقول أن الشربة تكلفه عشرة قروش، ولكنه تقربا لأولياء الله الصالحين سيدنا الحسين والسيدة زينب يبيعها بخمس قروش (يعنى المشروع كان واقف عليه بالخسارة بعد أن يوصل دعم الخمسة قروش إلى مستحقيه)، quot;خمسة صاغ توفر عليك الفلوس التى تضيعها على الدكاترة والحكماء
والمستشفيات والأجزاخاناتquot;؟ ....

....

ياترى كم حولنا اليوم من لا عبى الثلاث ورقات فى مجالات السياسة والإقتصاد والصحافة والإعلام والدين يقامرون بمستقبل شعوبهم ويبيعون الوهم للعامة والخاصة ويقولون لهم أن خسارة الماضى لن تتكرر وأن التعويض قادم وقريب.
وياترى كم حولنا اليوم يتبع نفس أسلوب quot;عم محمودquot; فى بيع الوهم الذى يشفى من كل الأمراض، quot;ولا الحوجة للدكاترة ولا الحوجة لطب الغربquot;، كم حولنا اليوم من عم محمود الذى يبيع لنا الوهم بأنه سوف يحول: quot;الخمس قروش إلى عشرة قروشquot; سواء عن طريق البورصة أو المساهمات الوهمية والمشروعات الوهمية، والله يرحمك ياعم محمود quot; لوحت رقبتى ولم أشاهد بعد كيف تحول الخمس قروش إلى عشرة قروش ومت ومعاك السر!!quot;.
[email protected]