في تقديري أننا لو تعاملنا مع الحاضر والمستقبل مثلما نتعامل مع (الماضي) لكنا أعظم شعوب الأرض . هذه حقيقة على الأقل بالنسبة إلي. فنحن مشغوفون إلى حد المرض بكل ما هو (أنتيك). موضوع الأصالة ndash; مثلاً ndash;قضية كبرى بالنسبة الينا، بينما هي في معايير الواقع لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تكسي عرياناً، ولا تعالج مريضاً، ولا تروي ظمآناً، ولا تنصر مظلوماً، ولا تكبح جماح ظالم.
أمريكا القوة الأعظم في العالم أقل أمم الأرض أصالة، ومع ذلك هي الأقوى، والأعظم، والأضخم، والأكثر تماسكاً ولحمة، ومصدر كل المخترعات الكبرى التي غيرت العام، وقادته إلى التاريخ الحديث منذ القرن العشرين وحتى الآن، وفي كل المجالات.
أمريكا ndash; يا سادتي ndash; هي (المعاصرة) وضع نقطة في آخر السطر.
نكذب على أنفسنا عندما نعتقد أن الأصالة والمعاصرة يلتقيان، فهما شأنان مختلفان، الربط بينهما تهريج، وكذب، ولعب على الذقون، أو باللهجة السعودية (خرطي). ولن أكون مبالغاً إن قلت أن سر تفوق أمريكا يعود إلى (عدم أصالتها) تحديداً. فلو أن أمريكا لها تاريخ (عريق) يجذبها إلى الوراء، ويشدها إلى الخلف، تلتفت إليه، وتـَحِـن إلى أمجاده كلما تقدمت خطوة ، حتى وإن كانت هذه الأمجاد مزورة، كما هو شأن العرب، لما تقدمت، ولما تطورت، ولما ابتكرت، ولما كسرت كل مألوف، وتمردت على كل نمط.
أمريكا ndash; أيها السادة - أخذت من كل الحضارات شيئاً ثم أضافت إليه؛ ومن خلال (المهاجر) الجديد إلى أرض الأحلام - كما كانوا يسمونها - استطاعت أن تصهر كل الثقافات والحضارات في بوتقة واحدة. وأن تعلم الناس كيف تفكر، وكيف تخترع، وكيف تصنع المستحيل، وكيف يُمكن لمجموعة من (المهاجرين) رغم اختلاف ألوانهم، وتعدد مشاربهم، واختلاف ثقافاتهم، أن (يُـشكلوا) فريق عمل متماسك، ثم أن يصبح هذا (الفريق)، منطلقاً لمبدأ (التخصص وتقسيم العمل) الذي اكتشفه الأمريكي (فردريك تيلور)، والذي هو ثورة في تاريخ البشرية، فقد كان له الفضل كل الفضل في ترسيخ مبدأ (التكامل (integrationفي التنظيم، الذي أعطى للبشرية كل هذه المنجزات، وكل هذه المخترعات، وكل هذه المكتشفات. (التخصص وتقسيم العمل) كان مفتاح الوصول إلى الكنز الحضاري، والتفوق، والقوة، والرفاه الاقتصادي الأمريكي، الذي يحلم كل العالم أن يصل إليه.
لم يكن لدى الأمريكان تراثاً ينبشون في أوراقه الصفراء، ولا (مأثورا) يقضون الليالي الطوال لفهمه واستيعابه فضلوا و أضلوا، ولم يأسرهم (كلاسيك) لا يحملُ في مضامينه إلا التاريخ والمجد الغابر، ولم يكن يشغف قلوبهم (أطلاًلاً) يبكون ماضيها، ويُوقفون عندها (مطاياهم)، ويجمعون من بُـرازها (بَعرات) نار غذائهم، ولا (أهراماً) شاخصة أنظارهم إليها صباح مساء يسألونها أن تمدهم بالتحضر وأن تدلهم إلى التمدن؛ فالمهاجر هو الذي يصنع تاريخه، وليس وراءه إلا الفراغ، أو اللا شيء. انقطعت صلاته يكل ما هو ماضي، يكل ما هو تاريخ، منذ أن لامست قدماه العالم الجديد.
ومن الفراغ النقي من (انفلونزا) التاريخ أشرقت شمس الحضارة الأمريكية المعاصرة، لتبقى (الأصالة) مجرد عجوز بائسة يائسة عانسة، كأي قطعة أثرية لقوم (منقرضين) بقيت في كهوف ساكنيها منذ قرون . وكذلك كان العرب مجرد (عجائز) تجلس (القرفصاء) على قارعة الطريق، تمد أكفها تتسول (الرغيف) من العابر إلى المستقبل، ثم تلعن كل من أعطاها ومن أنقذها من أمراضها بكل جحود.
أراد العرب أن يجمعوا بين نقيضين: (الأصالة) التي يزعمونها و(المعاصرة) التي يقفدونها، فظلوا وما زالوا يُصارعون المستحيل، ويرددون: (لنا مدنية سلفت سنحييها وإن دثرت)، فلم يحيوها، ولكنهم أقاموا قبورهم وقبور (انتحارييهم) في جوار أطلالها!