بين عامي (النكسة) 1967 وما تلاها، وأعوام (الوكسة) التي يمر بها العالم العربي منذ أكثر من عقد من السنين وتحديدا منذ غزو النظام العراقي البائد لدولة الكويت عام 1990 والذي أطلق رصاصة الرحمة على كل ما كان يسمى ب (التضامن العربي) والذي حفر أخاديد عميقة من الكره والحساسية النفسية بين الشعوب العربية، جرت مياه عديدة تحت كل الجسور، وحدثت متغيرات هائلة لا يمكن قياس مدى تأثيراتها السلبية عبر مقالات عابرة، فقمة الخرطوم الأولى والتاريخية التي أعقبت الهزيمة العسكرية العربية المريعة أمام إسرائيل في حرب الأيام الستة التي فقدنا فيها ما تبقى من فلسطين التاريخية وصحراء سيناء وهضبة الجولان، قد عقدت في ظل مشاعر عربية عاطفية قوية للغاية رسمت إطارا لتقارب عربي في ظل أجواء كانت متوترة للغاية على صعيد العلاقات العربية/ العربية، إلا أن مصيبة الفضيحة والهزيمة قد أذابت كل عداوات الماضي ومؤامراته وخصوصا على صعيد العلاقات المصرية/ السعودية وحيث كان الطرفان في حالة صراع سياسي ساخن وحرب عسكرية معلنة في بطاح اليمن لكون نصف الجيش المصري وقوته الضاربة كانت مشغولة بالكامل في حروب القبائل اليمنية وفي مسلسل التوريط الذي أستدرجت إليه القيادة المصرية أيام الراحل جمال عبد الناصر، وفي مغامرة كانت جزءا من حالة المراهقة السياسية العربية والتي كلفت العالم العربي الشيء الكثير من الخسائر والتي لم نزل ندفع أثمانها حتى اللحظة، فكانت أجواء الهزيمة القومية الشاملة وقتها مناسبة للم الشمل القومي ولو بصيغة إنقاذ ما يمكن إنقاذه !، وكان لوجود الرئيس عبد الناصر والملك الراحل فيصل بن عبد العزيز وهما قطبا الصراع المحتدم وقتها في العالم العربي وشخصيتهما الكارزمية الدور الكبير في الخروج بنتائج إيجابية من تلك القمة التي أشتهرت بلاءاتها الثلاث (لا صلح لا تفاوض لا إعتراف) وهي شعارات رغم عدم واقعيتها كما أثبتت ذلك الأيام إلا أنها كانت جزءا من الصورة السياسية السائدة وقتها، ورممت جزئيا مسلسل التداعي في العلاقات العربية، وأستطاعت إمتصاص حدة النكسة جماهيريا وتعبويا وإعلاميا، كما كانت مناسبة لحسم العديد من ملفات الصراع الداخلية وتناقضات الخلاف بين القيادات العربية، ففي ظل أجواء تلك القمة تم حسم الصراع السياسي في مصر المهزومة ذاتها بتصفية جناح المشير (عبد الحكيم عامر) نائب القائد العام والذي رفض تحمل مسؤولية الهزيمة وأخذ يتصرف بشكل إنقلابي للهيمنة على السلطة!! كما صفيت معه مراكز القوى في جهاز المخابرات المصرية بتنحية رئيسها الشهير (صلاح نصر) وجماعته مما نقل البلد لأوضاع جديدة كان عمادها إعادة بناء القوات المسلحة المصرية والحصول على موارد دعم مالي جديدة للتسليح بعد إغلاق قناة السويس وضياع آبار البترول في سيناء تحت الإحتلال وهي قضية حتمت التقارب مع الأنظمة المحافظة في الخليج العربي وعلى رأسها السعودية مما أستوجب توقف دعايات (صوت العرب) والتحريض الإنقلابي الدائم ضد الأنظمة العربية والدخول لعالم السياسة الإقليمية والدولية من خلال لغة الواقعية السياسية وليست لغة الأغاني الثورية والبيانات الملتهبة، وكانت بداية إنكفاء النظام الناصري نحو ترميم ذاته وإصلاح جبهته الداخلية، و محاولة محو آثار العدوان وهي مهمة لم تكن سهلة أبدا فحجم الخراب الداخلي كان مريعا للغاية، وكانت تلك القمة مناسبة تاريخية لمراجعة كل الحسابات وهو ما أدى في النهاية لسحب القوات المصرية من اليمن والبدء بحرب الإستنزاف وبناء الترتيبات العسكرية التي قادت فيما لحرب أكتوبر عام 1973، وكان العالم العربي وقتها قد دخل في عصر جديد للتغيير ولكن نحو الأسوأ عن طريق سلسلة جديدة من الإنقلابات في العراق حيث عاد البعثيون للسلطة في تموز 1968، ثم في السودان ذاته في مايو 1969 بقيادة جعفر نميري ثم في ليبيا في سبتمبر 1969 بقيادة معمر القذافي ووصولا لسوريه ونظامها البعثي المهزوم الذي دخل في حرب التصفيات بين اليسار الثوري واليمين المعتدل وإنتهى بهيمنة حافظ الأسد ومجموعته على السلطة، وإنحسار النفوذ الناصري وتراجعه حتى داخل مصر ذاتها بعد حركة مايو 1971 والذي صفى خلالها الرئيس الراحل أنور السادات بقايا جماعة جمال عبد الناصر ليحقق أهدافه العسكرية من خلال رؤيته وتصوره للأمور، فخاض حرب أكتوبر ثم فك الإرتباط ووصولا للمبادرة الشهيرة عام 1977 ثم إتفاقية (كامب ديفيد) 1978 والتي كانت تحولا تاريخيا في مجرى الصراع العربي / الإسرائيلي، أما قمة الخرطوم الحالية فهي تأتي في ظل أوضاع أشد قتامة من أوضاع مرحلة ما بعد يونيو 1967!، فحجم الخراب في العالم العربي قد وصل في مرحلة اللاعودة بعد فشل الأنظمة الإنقلابية التاريخي في قيادة أوطانها أو العالم العربي سوى نحو الجحيم وسقوط نظام البعث العراقي بفعل القوة العسكرية الخارجية والإحتلال الأميركي تحديدا، وسيادة الأفكار الدينية والطائفية في العالم العربي بعد هزيمة الفكر القومي والطريق المسدود الذي تعيشه الجماعات الدينية أيضا التي تحاول إعادة عقارب الساعة للوراء معتمدة على خزين هائل من العاطفة التي لا تحل المشاكل الحقيقية والمتجذرة؟ والغريب أن الدولة التي تحتضن القمة الجديدة تعيش هي ذاتها ظروف صراع داخلية خطيرة تهدد بتدخل دولي في منتهى الخطورة إضافة إلى كون العديد من الحلول للمشاكل العربية لا تتوفر للأسف في العالم العربي بل في خارج الوطن العربي كما هو حال المسألة العراقية والقضية الفلسطينية والحرب العرقية في السودان وحتى أزمة الصحراء المغربية ! هذا غير حالة الأمن الستراتيجي للوطن العربي في الخليج العربي وهي حالة هشة تهدد بالتحول لكارثة فيما لو وصل الصراع الدولي حول الملف النووي الإيراني لنهايات غير سارة..؟، قمة الخرطوم في ظل حالة التغيير والمطالبة به، وتصاعد الصراع مع الجماعات الدينية والطائفية، لن تأت بجديد، ولن تحقق المرجو، وستكون مجرد إحتفالية لبعض الأنظمة التي هي أحد أسباب هزيمة الأمة الحضارية.... فخرطوم 2006 لن تكون أبدا كخرطوم 1967... وستثبت الأيام صحة ما نقول؟.
- آخر تحديث :
التعليقات