الانقسامات اللبنانية وتداعياتها بدت على احسن ما يكون عليه الصوت والصورة في واجهة مؤتمر القمة العربية في الخرطوم. صحيح أن خطاب الاكثرية النيابية التي باتت تعرف بـ quot;تحالف 14 آذارquot; وصل إلى أمانة الجامعة العربية وتسرب الى الملوك والرؤساء الحاضرين قبل وصول رئيسي الجمهورية والحكومة اميل لحود وفؤاد السنيورة، كل على حدة، وعلى رأس وفدين، لكن اياً من هذه القادة لم يكن يتوقع أن يواجه quot;رأسينquot; مضادين، لكل منهما مواقفه وطروحاته، لكأن لبنان الصغير اصبح لبنانينن، على عكس ما تغنى به السياسيون على امتداد حوالى سبعين سنة من عمر الاستقلال.
فريق 14 آذار ادعى في خطابه ان الرئيس لحود quot;اغتصبquot; السلطة بقوة الامر الواقع السوري قبل خروج القوات السورية وأجهزتها الامنية من لبنان. وبالتالي فإنه يفتقد شرعيته الدستورية والشعبية، وأيضاً الدولية، تماماً كما جاء في اولويات القرار 1559، ما يعني في نظر هؤلاء رفضهم المطلق لكل ما يصدر عن رئيس الجمهورية من مواقف وتصريحات، والتزامهم الكامل بالسياسة الوطنية التي يمثلها رئيس الحكومة فؤاد السنيورة.
كلام غير مسؤول لجهة مسؤولة تنادت الى قمة، هي أقصى ما يمكن للعرب القيام به، تحاشياً لمزيد من الانزلاق والانهزام امام المطالب والضغوطات الدولية المتزايدة، في العراق وفلسطين ولبنان وسوريا. أغلب الظن كان فريق 14 آذار أن لحود ما زال رئيساً للجمهورية، ورئيس حكومته فؤاد السنيورة، ما زال يجلس الى جانبه على طاولة مجلس الوزراء، وإن أبدى عزوفه عن الجلوس معه الى طاولة واحدة في مؤتمر القمة، الامر الذي شكل شذوذاً في الادبيات السياسية اللبنانية، وكما لم يحصل من قبل حين كان الاقتتال سيد الساحة اللبنانية، ينتقل من منطقة الى اخرى، دون أن تتحكم العداوة بين هذا الفريق أو ذاك لدرجة الامتناع عن اللقاء والحوار والمناقشة.
لن نقول ان 14 آذار اغتصب هو الآخر اكثرية نيابية وفق قانون انتخابي يعود الفضل الى رئيس جهاز الامن والاستطلاع السوري غازي كنعان حتى حمل اسمه، ما يجعل هذه الاكثرية هي الاخرى غير شرعية، خصوصاً وان اعدادها تناقضت بعد خروج العماد ميشال عون ونوابه منها لصالح quot;حزب اللهquot; وquot;حركة املquot; المقربين من الرئيس لحود وسوريا، إنما لا بد من الاعتراف ان هذه الاكثرية quot;المصطنعةquot; أو quot;التخيليةquot; كما وصفها العماد عون تمعن في اقتراف الاخطاء منذ عملية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري برفع سقف شروطها ومطالبها واعتماد استراتيجية quot;أنا أو لا احدquot; ما أفقدها الكثير من وهجها في الشارع اللبناني ولدى كل الافرقاء والطوائف بدون استثناء، خصوصاً ان هذه المطالب لم تتعد الشأن السياسي والقضائي الى الشأن الاقتصادي ـ الاجتماعي ـ الحياتي، الذي يبقى الهمّ الاول والاكثر حراجة لتسعين بالمئة من المواطنين اللبنانيين.
إن احداً لا ينكر على فريق 14 آذار مساهماته الكبرى في تحقيق العديد من المطالب الوطنية، وليس من فريق لبناني آخر يعارض السيادة والحرية والاستقلال ومعرفة الحقيقة. لقد خرجت القوات العسكرية والامنية السورية من لبنان، ولكن هل توقفت الاغتيالات؟ هل انسحب القرار السياسي السوري منه؟ هل تحوّل حلفاء سوريا اللبنانيون الى اعداء لها؟ علماً بأن ألدّ اعداء دمشق اليوم على الساحة اللبنانية كانوا الاشد حماساً لها في الامس. إلى ذلك ارتضى اللبنانيون على مختلف طوائفهم مواقفهم السياسية بقيام علاقات ندية ودبلوماسية على مستوى السفراء بين البلدين وترسيم الحدود، فهل يؤدي هذا التفاهم إلى شطب كل الخلافات وquot;عفى الله عما مضىquot; ام تبقى quot;القلوب مليانةquot; بعد عين الرمانة الى باب التبانة؟
ثم جاء الأمر على لسان السوريين انفسهم بلبنانية مزارع شبعا وقد كرر ذلك اكثر من مرة فاروق الشرع حين كان وزيراً للخارجية السورية، وبعدها اصبح نائباً اول للرئيس بشار الاسد. ولكن هل يكفي هذا الإقرار لتتكرس لبنانية المزارع امام المراجع الدولية، وخصوصاً امام هيئة الامم؟
وكان حوار فاتفاق بين الاقطاب اللبنانيين على معالجة السلاح الفلسطيني خارج المخيمات والمبادرة الى تحسين اوضاع اللاجئين بما يليق باحترام الحياة الانسانية، ولكن، هل للحكومة اللبنانية القدرة على سحب هذا السلاح، أو الحد من استعماله، وإذا كان لديها القدرة فهل تتجرأ على تنفيذ خطتها دون إحداث خضات في الشارع اللبناني ولو اتفق قادة الصف الاول.
ثم جاء الاتفاق بغير رفض على متابعة التحقيقات في جريمة اغتيال الرئيس الحريري وتأليف محكمة دولية في هذا الشأن، ولكن منذ حصول الجريمة النكراء، هل طالب اللبنانيون بغير الحقيقة حتى يتم التفاوض عليها. نعم حصلت بعض المخاوف من تسييس القضية من جانب لجنة التحقيق الدولية، وقد حصل ذلك بقيادة رئيس اللجنة الاول القاضي ديتليف ميليس ما حمل السوريين الى استنكار ما يحدث مطالبين بتحقيق قضائي صرف، وهذا ما يحققه اليوم القاضي البلجيكي سيرج براميترتز.
إلى هنا سار الاتفاق بين قادة الحوار اللبناني في جلسات اربع انتهت الى ما يشبه الحائط المسدود امام القضايا الخلافية الكبرى: أولها مصير رئيس الجمهورية اميل لحود والامكانيات المتوافرة لاستقالته أو إقالته وفق الاصول الدستورية، وثانيها سلاح حزب الله، والقضيتان تشكلان محور الحوار الوطني الذي سيستأنف جلساته الاثنين المقبل. هذا في الوقت الذي يستعد مبعوث الامين العام للامم المتحدة الى لبنان لتنفيذ القرار 1559 تيري رود ـ لارسن لرفع تقريره نصف السنوي في الحادي عشر من نيسان/ ابريل، وفيه، حسب مصادر مطلقة، يدعو إلى إعادة ترتيب اولويات الملف اللبناني بحيث يكون التركيز في المرحلة المقبلة على حوار لبناني ـ سوري تنتج عنه خطوة اولى، هي اقامة تمثيل دبلوماسي على مستوى السفارة، تشكل مظلة لحوار مماثل حول ترسيم الحدود بين البلدين بموجب اتفاق يبرمه الطرفان، ومن ثم تأكيد لبنانية مزارع شبعا وتوثيقها في الأمم المتحدة.
اللافت في زيارة لارسن الأخيرة الى بيروت بعد جولة شملت عدداً من العواصم العربية والدولية، تطرقه الى قضايا سبق ان وجدت حلولها الموضوعية والمنطقية في جلسات الحوار الوطني، متحاشياً في المقابل الدخول في القضايا المعلقة والشائكة، ولعل هذا التغييب عن سابق تصور وتصميمن في رأي بعض السياسيين اللبنانيين، يكشف تراجع واشنطن وباريس عن رغبتهما الجامحة، خلال الشهور العشرة الاخيرة، في استقالة او إقالة الرئيس اميل لحود، وكذلك الامر بالنسبة لسلاح المقاومة، تاركة معالجة هذه الامور لكل من القاهرة والرياض وذلك تحاشياً لاصطدامات سياسية تؤدي الى اصطدامات عنيفة في الشارع بفعل الانقسام القائم، والذي تبدى بوضوح في قمة الخرطوم العربية.
وتضيف هذه المصادر ايضاً تبعاً لتقييم دولي ـ عربي أن العواصم المعنية باتت تفضل حل مشكلة الرئيس لحود بلا ضجيج وتعطيل الالغام التي من شأنها تعريض الاستقرار في لبنان للاخطار، ما يعني ان المجتمع الدولي أدرك ولو متأخراً ان دعوته لاستقالة الرئيس لحود أو إقالته تفتقد الاصول الدستورية من جهة، كما ان المجتمع اللبناني المقسوم على نفسه يحول دون تحقيق ذلك بالقوة الأمر الذي يحتم التطلع الى خيارات اخرى، تبقى مجال قلق بالغ لدى فريق 14 آذار، الذي تنبّه ولو متأخراً وفي سلسلة الاخطاء الذي ارتكبها منذ سنة مضت، الى ان ترفع سقف مطالبه تحول الى رهانات فارغة افقدته الكثير من مكاسبه السياسية والشعبية، وما يطرح اسئلة عدة في المقابل، وعلى رأسها: هل انتهى الحوار الوطني الى حيث انتهت الجلسة الرابعة، وقد تكون الخامسة الاخيرة بعدما تأكد للجميع ان الرئيس لحود باق في بعبدا الى آخر دقيقة من ولايته الممددة، وكذلك سلاح حزب الله، الرادع الاقوى في وجه الاعتداءات والمطامع الاسرائيلية، كما اكد الرئيس لحود للملوك والرؤساء العرب في الخرطوم.
طبعاً ليس من قضية جامدة في لبنان المتحرك على نبض الاحداث الخطرة والمتفجرة التي تشهدها منطقة الشرق الاوسط، وقد يكون من المفيد تذكير فريق 14 آذار بما قاله المبعوث الاميركي دونالد رامسفيلد قبل ان يصبح وزيراً للدفاع الاميركي بأن quot;على الذي يقوم بمهمة سياسية في الشرق الاوسط ان يرتدي بزة رواد الفضاء، فالمنطقة في حالة انعدام الوزن. الرجال يتطايرون والأفكار تتطايرquot;، في حين رأى مبعوث اخر هو هول لينوفيتش وضعاً مختلفاً تماماً، quot;فالجاذبية الارضية هي من القوة في الشرق الاوسط بحيث يتجمد الآتي من الخارج مكانه. إنه يلتصق بالارضquot;. وبين التطاير والجمود اختار هنري كيسنغر فلسفة الخطوة خطوة، وهي اخطر السياسات الاميركية اذا اخذنا بالاعتبار ما تخطط له واشنطن في لبنان وسوريا وفلسطين والعراق، وقد لا تكون بقية منطقة الشرق الاوسط في معزل عن الخطة الشاملة، آجلاً أم عاجلاً.