في إبريل 2004 قدم هابرماس طرحا مبتكرا لدور الدين في المجتمع المعاصر، في مؤتمر دولي عن quot;الفلسفة والدينquot; في جامعة بولانذر لودر. وكان من أبرز ما طرحه في بحثه المعنون: quot;الدين في النطاق العامquot; هو أن quot;التسامح أساس الثقافة الديمقراطية؛ هو مسار باتجاهين دائما، ولهذا لا ينبغي فقط أن يتسامح المؤمنون إزاء اعتقادات الآخرين، بما

هابرماس يتناقش مع راتزنجر

يها عقائد غير المؤمنين وقناعاتهم، فحسب، بل إن من واجب العلمانيين غير المتدينين أن يثمنوا قناعات مواطنيهم الذين يحركهم دافع ديني quot;. ووفقا لنظريته في quot;الفعل التواصليquot; فإن هذا القول يوحي بضرورة أن نتبنى وجهة نظر الآخر. ولعله سيكون من غير المعقول ان نتوقع أن يتخلى المتدينون بالمرة عن قناعاتهم الراسخة عند الدخول في النطاق العام الذي يصير فيه الاستدلال العقلاني نمط خطابنا الأساسي. بيد أنه أكد في محاضرة عامة مؤخرأ ً: quot;إن قوة التعاليم الدينية وقدرتها على صياغة البديهات الأخلاقية فيما يتعلق بأشكال الحياة الإنسانية المحترمة تجعل من التمثلات الدينية المتعلقة بالقضايا السياسية ذات الصلة مرشحا جاداً لمضامين حقيقة ممكنة يمكن عندئذ ترجمتها من مفردات مجتمع ديني محدد إلى لغة مفهومة عموماًquot;. ولهذا، مهما كانت مفاهيمنا الفلسفية العلمانية قوية ومقنعة ـ كفكرة حقوق الإنسان على سبيل المثال ـ فإنها تستفيد، من حين لآخر، من اتصالها المتجدد بأصولها المقدسة. والواقع أنه حتى عهد قريب كان هابرماس معروفاً بأنه مفكر علماني تماما، ورغمأنه تناول في كتاباته موضوعات دينية، فإنه يصعب إدراجه في خانة الفلاسفة المتدينين. ومع ذلك، لم تبدأ نبرة أعماله في التغير إلا قبل سنوات قليلة. ففي خريف عام 2001 تلقي هابرماس جائزة السلام من رابطة بائعي الكتب الألمانية، وكان لعنوان كلمته في الحفلquot; الإيمان والمعرفةquot; وقعاً دينيا ً. كما شدد الخطاب الذي ألقاه بعد مدة قصيرة من هجمات الحادي عشر من سبتمبر على أهمية التسامح المتبادل بين المقاربتين العلمانية والدينية في الحياة. وخاض هابرماس في العام الماضي حواراً علنياً رفيع المستوى مع الكاردينال جوزيف راتزنجر (الذي تولى في التاسع عشر من إبريل 2005 منصب خليفة البابا يوحنا بولس الثاني) بناءً على رغبة الكادرينال.
والواقع أننا إذا تتبعنا مسار تطور هابرماس الفكري لا نجد غرابة في ذلك. وإذا ألقينا نظرة على أبرز عمل فلسفي عنده (مجلدي كتاب نظرية الفعل التواصلي عام 1981) نجده يِؤكد أن المفاهيم الحديثة من قبيل المساواة والعدل هي صيغ علمانية لمفاهيم يهودية ـ مسيحية قديمة.
وبالمثل، فان فكرتنا عن القيمة الجوهرية للأشخاص كلهم ـ التي هي مهاد حقوق الإنسان ـ تنبع مباشرة من المفهوم المسيحي لمساواة الرجال والنساء كلهم عند الله. ولو اختفت ذه المصادر الدينية القيمة من الأخلاق والعدل بالمرة، لكان مشكوكاً بقدرة المجتمعات الحديثة على إبقائها عندها. ولخص هابرماس، في مقابلة أجريت معه مؤخراً، هذه الرؤى على النحو الآتي: quot;في الفهم الذاتي المعياري للحداثة عملت المسيحية كأكثر من محض مبشر أو محفز، أما نزعة المساواة الشمولية التي منها نبعت مفاهيم الحرية والحياة الجمعية المتضامنة وسلوك الحياة المستقل والانعتاق، وأخلاق الفرد وضميره، وحقوق الإنسان والديمقراطية، فهي الإرث المباشر لأخلاق العدالة اليهودية وأخلاق المحبة المسيحية.
لكن... ماذا تعني كلمة quot; علمنة quot; اليوم، في المجتمع ما بعد العلماني ؟... هذا السؤال بدوره شغل quot; هابرماس quot;، ويبدو أن ما عجل بإثارته، انفجار التوتر الكامن والمكبوت بين المجتمع العلماني والدين، عقب زلزال 11 سبتمبر 2001 على وجه التحديد.وحسب هابرماس فإن المجتمع ما بعد العلماني يعترف بالدور المهم للدين. والغرب لا يدافع عن الإهانات الفردية التي توجه لما هو ديني ليس لأنه ضد الدين، كما أنه لا يدافع عن الحرية الجنسية مثلا كهدف في حد ذاته، إنما يدافع عن فضاء يعيش فيه شتي أشكال الحياة والمعتقدات بلا صراعات. وبعبارة واحدة، فإن مغزى هذه الحرية هو: quot; من الأفضل تحمل quot; التجديف quot; على تحمل الحرب الدينية quot; التي استمرت ثلاثين عاما بين الكاثوليك والبروتستانت وانتهت بمعاهدة quot; ويست فاليا عام 1648 quot;. بيد أن هذا يشترط أكثر من ترتيبات فنية ودستورية وأكثر من تسامح مشروع: أي أن يتخلى المواطن الفرد في المجتمعات الغربية بقدرة فريدة من نوعها، تاريخيا، للتعايش مع الآخر المختلف ومع المتعارض.... هذا البرود أو تلك الحرارة التي جري تخفيضها تقلل quot; العنف quot;.فإذا تعلم المواطنون، مؤمنين وغير مؤمنين ( وهم يعون انهم معرضون للوقوع في الخطأ، علي اعتبار ان كل إبن آدم خطاء)، كيف يتعاملون مع هذا الحدث بلا عنف، أي من دون أن يمزقوا الرباط الاجتماعي الخاص بالكيان السياسي العام، إذا تعلموا ذلك، عرفوا ماذا تعني أسس القرار العلمانية في المجتمع quot; ما- بعد ndash; العلماني، المثبتة في quot; الدستور quot;.
بيد أنه قدم تحليلا غير مسبوق في فلسفة التاريخ للعلاقة بين الفلسفة والدين، وللتاريخ الخاص للفظة quot; العلمنة quot; في أوروبا. فقد كان لكلمة quot; علمنة quot; أولا معني قانونيا هو: نقل ملكية أملاك الكنيسة المفروض بالقوة إلى سلطة الدولة العلمانية. وقد استعمل هذا المعني تجاوزا لنشوء الحداثة الثقافية والاجتماعية. منذ ذلك الحين ترتبط بالعلمنة تقييمات متناقضة بحسب تركيزنا إما على التدجين الناجح للسلطة الكنسية بواسطة السلطة العالمية، أو على عملية الاستيلاء المنافي للقانون.
بحسب إحدى هاتين القراءتين تحل نظائر عقلية متفوقة في كل الحالات محل أشكال وطرق تفكير دينية. أو بحسب القراءة الأخرى فتنبذ أشكال الحياة والتفكير الحديثة بوصفها أملاكا مسلوبة بطريقة غير مشروعة.
اضطراد تقدم الحداثة هو منطلق الأولى (وهو ما يعرف بنقد الحداثة ). وتداعي معاني الحداثة المشردة هو جوهر القراءة الثانية ( لما بعد الحداثة ). غير أن القراءتين، بحسب هابرماس، ترتكبان الغلطة نفسها باعتبارها quot; العلمنة quot; نوعا من لعبة نتيجتها الصفر، تلعبها قوي التقنية والعلم المنتجة، المطلقة رأسماليا من عقالها من جهة، وقوى الدين والكنيسة المحافظة من جهة أخرى. ولابد من أن يربح طرف على حساب الطرف الآخر، وذلك بحسب قواعد اللعبة الليبرالية التي هي لصالح القوي الدافعة الخاصة بالحداثة.
بيد أن هذه الصورة لا تناسب مجتمعا، هو في طور (ما بعد العلمانية)، وطّن النفس على استمرار الجماعات الدينية وسط محيط يتعلمن باطراد. ويغيب الدور المتمدن الذي يقوم به عقل عام ndash; Commonsense مستنير ديمقراطيا، يشق طريقه وسط ضجيج الصراع الحضاري وكأنه طرف ثالث بين العلم والدين. من وجهة النظر الليبرالية لا يستحق من الأديان صفة quot;العاقلquot; إلا الدين الذي يتخلى بسبب تعقله الذاتي عن الفرض القسري لما يؤمن به من قناعات، وعن الإجبار القسري للضمير الذي يمارس تجاه المنتمين إليه، وبالدرجة الأولى عن استخدامهم للقيام بعمليات انتحارية.

تلك الفكرة، من وجهة نظره، تدين بوجودها لتأمل ثلاثي الأضلاع يقوم به المؤمنون، متأملين موقفهم في مجتمع كوكبي تعددي. فعلي الوعي الديني أن يعالج أولا:اللقاء المختلف معرفيا مع مذاهب أخرى وأديان أخري. ويجب عليه ثانيا: أن يقبل سلطة العلوم التي تمتلك في مجتمع اليوم حق احتكار معرفة العالم. ويجب عليه أخيرا: أن يتقبل المقدمات المنطقية الخاصة بالدولة الدستورية، وهي مقدمات تنبثق من أخلاق غير دينية.

ومن دون هذا quot;الدفع التأمليquot;، برأيه، سوف تفجر الأديان التوحيدية طاقة هدامة في مجتمعات محدثة بلا رحمة. ومعني quot;الدفع التأمليquot;: التأمل والتفكر والتدبر والنقد المزدوج وهو من خصائص المجتمعات الحديثة منذ عصر النهضة الأوربية، والتي خاضت ndash; وما تزال - صراعا مريرا بين الفلسفة والدين.

[email protected]

اقرأ أيضا:

ريتشارد وولن:quot;الانعطافة الدينيةquot; عند الفيلسوف يورغن هابرماس