كنت أتابع الأخبار لما قدم تقرير عن القراءة فى النمسا، ذكر معد التقرير أن القارئ النمساوي يقرأ بما يساوى القارئ العربي المقيم فى النمسا عشرين مرة. ووجدتني أقف ويقف شعر رأسي ؛ حتى هناك فى قلب أوروبا بيننا والمعرفة عداء مستحكم، حتى فى بلاد المعرفة؟ أي إنسان هذا الذي لا يريد أن يعرف، ما السر فى هذه القطيعة مع المعرفة المتأصلة فينا، ولماذا هي مستحكمة إلى هذه الدرجة، قال قائل لقد جلبناها معنا من أوطاننا وتحت الجلود هربناها ولكن لماذا؟.
الكتاب لا يقرؤون، الصحافيون لا يقرؤون، أساتذة الجامعة لا يقرؤون البتة، والمسئولون السياسيون أعداء القراءة والمعرفة والأطباء والمهندسون والقضاة والمحامون hellip; الخ، ولم نتفق كما اتفقنا على مقاطعة هذا العدو الذي استطعنا أن نحقق الوحدة ضده، وأن نجمع القوى فى الداخل وفى الخارج.
وكذا أن نحقق المستحيل من أجل محاربة الثقافة والعلم فى أوطاننا، وأن نمنع دخول العلم أدمغتنا وبلداننا، ونحارب الكتاب - الذي لا نقرأه أصلا - ونقفل فى وجهه الحدود.
وهكذا استطاع تحالف القوى الحاكمة والمحكومة أن يحقق هذه القطيعة على جميع المستويات وقد زدنا على ذلك فجعلنا من وسائل إعلامنا وسائل لعدم الإعلام ولنشر الجهل والتفاهة فى جميع الأوساط. وأصبح التفاخر ديدننا فالكتاب يفتخرون بأنهم لم يطالعوا كتابا منذ الستينات التليدة.. وهكذا. وحق الفخار فقد تم إبادة المعرفة وانتشرت أمية المعرفة من المحيط حتى الخليج، وصار أي قارئ - ان وجد - هزءا للجميع حتى غدت القراءة حضارة سادت تم بادت، وقد حشدت كل قوى وجهود الأمة من أجل هذا المشروع الحضاري العظيم الذي ليس مثله فى الدنيا. هذا تقرير حال ولكن تقرير عن حالة الموات التي نعيش، فنحن أمة تنحر وتنتحر هكذا على الملا، وبتؤدة وعلى مهل، انتحار تشارك فيه مدارسنا، وبقوة جامعاتنا، وبقوة أكثر أساتذتنا، وتعمل من أجله دولنا المصونة، وأما رؤوس أموالنا فتوظف - بدقة وإتقان - من أجل إتمام انتحارنا هذا بفرح وسعادة.
ويكتب وتهدر الأحبار من أجل نشر عملية الانتحار عبر وسائل إعلامنا المسموعة والمرئية، ونقف دون خجل ولا خوف نعلن عن عداوتنا للعلم والمعرفة نحن خير أمة أخرجت فى الناس كافة ! نرضع أطفالنا هذه العداوة، ويقوم فنانونا - بجهد كبير فى هذا ؛ فهم وزعمائنا يملؤن حياتنا صبح مساء عبر كل الوسائل الإعلامية الأرضية والفضائية يوكدون على أهمية أن لا نقرا، وأن نوكد على جهلنا فخارنا بين الأمم. فجميع من نري من شخصيات كبيرة تتربع على الشاشات شبه أمية، وأغلبهم لم يقرا كتابا منذ نعومة أظافره، وقد لا أذيع سرا أن الكثير من كتابنا لم يطلع غير ما تنشر الصحف، وحده وقف عند ما كتب منذ عقد وأكثر.
ولم أذكر الأرقام هنا، ولم أستعن بتقارير اليونسكو والأمم المتحدة لأنها لن تقرأ مثل هذا المقال الإنشائي، والبكائي الذي يمكن أن يرى فيه غدير الدموع.
وفقط من باب التنكيد على القارئ والتنفيس في وجهه أنقل له هنا ما ذكره الأستاذ ناصر عراق من إحصائيات إسرائيلية: 36 مليون كتاب يتم بيعها في إسرائيل سنويا، وفقا لما ذكرته المكتبة الوطنية للدولة اليهودية ونشرته جريدة السفير. وأشار التقرير الصادر عام 2004م إلي صدور 11959 صحيفة ومجلة في نفس العام. كما صدر أكثر من ثمانية آلاف عناوين في نفس العام منها 5183 كتابا باللغة العبرية، و616 بالانجليزية، و114 بالروسية، و62 باللغة العربية. كما صدرت عناوين باللغات الاسبانية والفرنسية والامهرية والألمانية والايطالية.
وإني اكتب هذا فى حالة كآبة حادة، وأجدني أكره ذلك : فما جدوى أن تكتب ما جدوى الكتابة.

[email protected]