قراءة تاريخية (2/2)
الواقعة والتمثل
هاهو ذا يسعى نحو توسيع مجال الرؤية المتعلقة بموضوع التاريخ،، حاشدا له القرائن والبراهين والأدلة التي يستقيها من من مؤلفات أعلام المؤرخين الذين يشير إليهم بالإسم، حتى ليستحضر أحد عشر مثلا تاريخيا مختلفا، يجعل منها بمثابة السند والدليل على الأوهام والأخطاء والوهن والشرود والضعف، ومن هذا فإن مؤرخنا يحاول التأسيس لوضع القواعد والأسس التي يجب أن يتحلى بها المؤرخ، إنه التطلع نحو تركيز معالم الصنعة والحرفة والفن والعلم. من دون السقوط في المباشرة. هنا يتبدى باحثا متعمقا هدفه الأبرز يقوم على كشف العلاقات التاريخية، من خلال الاستناد إلى الدليل العقلي، وتوسيع مجال التحليل(5)، من دون الوقوع في النقل والخضوع لسطوة النص. إذ لا كبير أو صغير في المعرفة. وبهذا فإن المسعى يتلخص في ؛ النزوع نحو المعرفي على حساب الاجتهادات الشخصية، والبحث عن الحقيقة بوصفها الغاية الأهم التي يقوم عليها معنى التاريخ، وليس التوجه نحو ترصد أخطاء هذا المؤرخ أو ذاك، هذا على الرغم من تثبيته المباشر للكثير من الأخطاء التي وقع بها الكثير من المؤرخين اللامعين، وبهذا فإنه يكاد أن يقول؛ أن لا كبير أمام الحقيقة. وهو المنشغل بالبحث في العقليات السائدة، وليس الولوج في التوصيفات التي تفرضها أنماط التفكير التي تتبدى هنا أو هناك. وعليه فإن الملمح الأبرز يقوم على توسيع مجال الاستكشاف التحليلي الذي يحاول النأي عن مجال التكهنات والتوقعات حيث الأهمية القصوى التي تحتلها التجربة وفي ممارسة واضحة تقوم على :
1. تعيين التمثلات والعمل على تفكيك أنساقها من خلال ترصد مصدر التلقي والأثر الذي تحدثه في الواقع، تلك التمثلات التي لا تتوقف عند توصيف منهجية تاريخية، أو درس موجه لطلبة علم، بقدر ما يتبدى أثر العلاقات الاجتماعية وتفسيراتها السائدة على موجهات الادراك.
2. طرح مجمل الروايات التاريخية في المدونات الكبرى، للنقد والتحليل، وتفكيك علاقاتها الزمانية والمكانية، وامكان الكشف عن رؤى جديدة.
3. توجيه النظر إلى التاريخ بوصفه موضوعا قابلا للاتصال والانفصال، وحث الجهود على نفي الثبات والمطلق الذي يكاد يتبدى لبعض من المتلقين.
4. الوعي بأهمية الجانب الخطي من التاريخ، والحرص على تنظيم العلاقة مع حد البداية والنهاية، لا سيما وهو المؤرخ المسلم، المؤمن بيوم القيامة والبعث والحساب. ولسان حاله يقول((جادلت عنهم في الحياة الدنيا، وأرجو أن يجادلوا عني يوم القيامة)) المقدمة ص 57.
5. توظيف المعارف وادراك مجال التعاون بينها، فالمعاني متداولة وقابلية الإفادة منها مبثوثة على مختلف الحقول،وإذا كان المسعودي المؤرخ قد وضع مصنفه لشرح أحوال الأمم، فقد جاء البكري من بعده وهو البلداني، مستفيدا من المنهج الذي اختطه سلفه المسعودي.
قواعد الرؤية الخلدونية
يبرز الموجه الأصل لدى ابن خلدون في توجهه نحو تحديد قواعد الممارسة، والتي يمكن أن توجه أفق المؤرخ نحو الأصيل والجوهري، من دون الوقوع في متاهة البحث عن الحقيقة الضائعة أو المبطنة، فالإشتغلا هنا لا يقوم على التطلع نحو توسيع مجال المجاز واللتأويل، بقدر ما يستند التاريخ إلى القواعد المنهجية الواضحة والصارمة، الساعية نحو رصد التحولات القائمة في تعاقب الأجيال على الصعيد الاجتماعي. إذ يكون دائما ثمة تراكمات لا بد للمؤرخ من الوعي بها والتفطن لها، بحساب التفحص والتمعن في دراسة الأحوال والأوضاع والعادات، التي لا تبقى لا حال من دون تغيير أو تبدل،بل أن الأهم هنا يقوم على ضرورة التمييز في أحوال التجانس والتقاطع الذي يمكن أن يتبدى على مجمل الأحوال السائدة،(6) وجعلها سبيلا نحو القراءة الفاعلة المتطلعة للخلاص من مزالق الخطل والخطأ الجسيم.
تتبدى سطوة السياسي على الموجه الرؤيوي لإبن خلدون، حتى أنه لا يتوان من الاستناد إلى الحكمة الشائعة ((الناس على دين الملك))، وتنبثق تلك الرؤيا من خلال هيمنة وقوة التوجيه التي تحوزها السلطة السياسية، ليكون التطلع نحو النهل من العادات والتقاليد السائدة خلال الحكم السالف،ومن واقع تعاقب الأجيال السياسية اللاحقة، يتم التوسع في مجال الاختلاف، والذي يتمظهر في تباين يكاد يكون شاملا وتاما. ومن هذا فإن فقدان الخصوصية للعادات الشائعة، تبقى تدور في فلك المظاهر الخارجية، تلك التي تكون إمكانية ترصدها قائمة، أما بانسبة للإحاطة الممكنة بالفوارق والاختلاف بين جيل وآخر، إنما يبقى مستنده يقوم على في توجيه الإمكانات المتاحة(7) حول التحليل للفوارق التي يتم ترصدها.
في المحاولة نحو وضع القواعد التنظيمية التي تحكم عمل المؤرخ، يكون التوجه نحو المؤثرات الحاكمة التي تقع على الفرد أو الجماعة، في طريقة المحاكاة لما هو سائد وشائع، حيث وقوع المؤرخ في فعالية التفسير بالسائد، تلك التي تعمد نحو استحضار القياس مع الأعراف السائدة، حتى يتم الخضوع للشاهد التاريخي من دون التدبر لأهمية الفوارق بين الأوضاع والتجارب، لتكون النتيجة وقد تمثلت في توسيع مجال الانحراف عن الوصف المنظم الساعي نحو تحديد خصوصية العصر التاريخي. وابن خلدون يؤكد هنا ((إن التاريخ إنما هو ذكر الأخبار الخاصة بعصر أو جيل)). ماهو الإطار الذي يعمل به مؤرخنا، ابن الدولة العربية الإسلامية التي تمثلها الخلافة. وما هي المنطلقات التي حددت عليه مسار الرؤية، والمدى الذي يحاول الخوض فيه، أهو التبرير باعتبار ثقل تبدل الأحول الذي جثم على الواقع، من خلال لحظة سقوط دولة الخلافة عام 656 هجرية، أم هو التوجه نحو تحليل الأحداث؟هل هي التناقضات والوضع المعقد والمرتبك الذي وجد ابن خلدون نفسه فيه، أم هي اللحظة الفارقة التي قيض له أن يستثمرها باعتبار الإمساك بالتراث الغني الذي خلفته تلك التجربة، حتى تبدى لنا بمثابة الشاهد الأخير. ولعل الاهتمام الملحوظ الذي يبديه ابن خلدون بموضوعة الخلافة، يبرز المزيد من حالة الارتباط العميق بين هذا المؤرخ الذي تلبسته روح الباحث المحلل في الأوضاع والمآل ومحاولة حساب النتائج، تلك التي يترصدها عبد الله العروي عبر المفاهيم الأربعة: الطبيعة، الاجتماع، العصبية، الملك. (8) ومن هنا يبرز موجه التحليل المستند إلى محاولة قراءة السكونية التي حطت بثقلها على الواقع السياسي العربي الإسلامي،حتى لم يعد من المجدي أو المنطقي أن تكون الوجهة نحو التبرير، بقدر ما تبرز أهمية التحليل للعلاقات السائدة، من خلال التطلع للوقوف على مستويات الترابط بين القوانين التي تفرضها الطبيعة. حيث المحاولة للكشف عن طريقة توزيع القدرات التي يحوزها المجتمع، ومدى الارتباط القائم المستند إلى رابطة العصبية التي يقوم عليها الملك. في محاولة منه للبحث عن أس العلاقة القائمة بين السياسي والاجتماعي. (9) ومن واقع التجربة السياسية الخاصة التي خاضها ابن خلدون، يمكن تلمس سعيه نحو البحث في مدى العلاقة القائمة بين الطبيعة والعمران البشري، هذا الأخير الذي تتماثل فيه مقومات التجربة التاريخية العربية الإسلامية.
من أي زاوية يمكن النظر إلى آلية الاشتغال الخلدوني، هل يبدأ من النقد بوصفه غاية مطلقة، أم أن إعادة البناء تضر لتساهم في إعادة ترميم المحتوى، وهل يقوم فعل الترميم هنا على محاولة للتعديل المباشر لأفكار بعينها، أم أن التطلع يكون مستندا إلى توسيع سلطة التاريخ المعرفية، هذا بحساب الاستناد إلى مرجعية معرفية واضحة المعالم محددة الأبعاد. إن التمعن والتفحص في الشروط واللوازم التي يزخر بها النص الخلدوني، سرعان ما تكزن بمثابة الإفصاح عن مكنون العلاقة القائمة بين الوعي والواقع، حيث الانفتاح على توسيع أفق البحث عن شروط التغيير بناء على المرتكزات المعرفية التي تتوجه نحو تركيز مجال الوعي، بلحظة سقوط الدولة العربية الإسلامية، وما رافقه من تراجع لبنية الاشتغال والاهتمام بالتفكير العلمي، والذي راح يعيش لحظة التوصيف والمكناة بالفترة المظلمة. ولكن التساؤل يبقى منفتحا على هذه الفترة تحديدا والتي لم يغب عنها إبراز المزيد من الأسماء الفكرية، والتي مثلت حركة فكرية على حد توصيف أدو نيس، ممثلة بجهود ابن منظور ت 1377 في علوم اللغة، وابن بطوطة ت 1377 في البلدانيات وعلوم الجغرافية و ابن خلدون ت 1406في علم العمران. (10) تلك الحركة التي راحت تغذ السير نحو تجاوز حالة الوهن والتداخل التي غطت بثقلها على الواقع السياسي، في محاول للإفلات من عبء تراجع الزمان أو ما يدعوه ابن خلدون بتقلب الأحوال، حتى ليبرز فعل التأسيس في محاولة ترسيخ معالم التجاور بين المجتمع والتاريخ، بين الواقع والوعي، هذا مع أهمية التنبه إلى قيمة المثال التاريخي النازع نحو توسيع مجال التفسير وتشذيب معالم الارتباط بالماضي، والخلاص من النظرة الأحادية التي يتم إلحاقها به. ومن هذا فإن المعالجة الخلدونية بقيت تركز على المنظور التاريخي، من خلال البحث العميق في ثنائية الطبيعي والمكتسب الذي يغلف ميول وتطلعات الأفراد والجماعات، حتى كان من الطبيعي أن يجعل من الأوج الحضاري مرجعا أساسيا في التحليل والتفسير، من دون الوقوع في دوامة الحنين إلى الماضي، بقدر ما تتبدى المحاولة في جعل الإدراك وسيلة وأداة موجهة نحو توليد المعنى. والسعي العميق نحو تخليص التاريخ من اللاوعي، عبر منظومة ((الرد إلى الأصول والعرض على القواعد)) المقدمة ص 41. ومم هذا فإن نزع القداسة عن التاريخ من خلال السعي نحو تفكيك المبهمات والمداخلات وجعل التاريخ مساحة قابلة لتنشيط دور الفعل والنظر، وبالتالي إفساح المجال للتجاوز والتخطي ومحاولة التحرر من المكبوت الجاثم على العقل، وتقديم مجال النقد الصارم للمجمل من الأحداث والوقائع، ومن هنا فإن التحليل يكون بمثابة المرشد نحو الكشف عن التناقضات والعوائق المستحكمة لمجمل تراث النكوص والهزيمة الذي حل بالأمة.
يبرز مجال توظيف الخبرة المعرفية لدى ابن خلدون، من خلال وضوح الرؤية المعرفية لديه، والتي تبقى مرتكزة حول فكرة التأثر، تلك التي تفرضها طبيعة العلاقة القائمة بين الغالب والمغلوب، هذا التأثر الذي يكون بمثابة الحافز نحو توكيد دور العقل في توظيب معالم العلاقة داخل الثقافة الواحدة(11)بل أن الانفتاح المأمول من مجال التأثر لا يعدم من أن يكون وسيلة للكشف عن المخبوء والمكتوم من المآسي التي يتم ارتكابها بحق البشرية(12) من قبل القوى المهيمنة والغالبة، ومن هذا فإن تشكيل العلاقة التي يحول ابن خلدون تبويبها لا تقوم على صراعية طبيعية، بقدر ما تحاول الخوض في تحديد المؤثر الثقافي الذي يكون أثره أشد فتكا وقوة من الحروب والمعارك. أما فكرة التحول والتي تتمركز حول تبدل أحوا الأمم الأجيال فإنه ترصده الأهم يبقى قائما حول التمييز بين السياسي والمعرفي، حيث كانت نتاجا لفترة الحياد التي اختارها مؤرخنا في سبيل ترسيم معالم العلاقة بين تفسير الظواهر سعيا إلى الفهم، ومحاولة الوعي بما آلت إليه أحوال الأمة، من تفكك وعجز وتنابذ وصراع على الصعيد السياسي، وانفتاح على المعرفي وحضورية الرأي، لا سيما وأن المؤثرات الحاضرة تبقى فاردة حضورها على تفعيل هذا الحيز. (13). أما فكرة النقدية فإن طريقة البحث والتحليل التي انغمس فيها ابن خلدون كانت قد أبرزت حيز الاشتغال في التنقيح والتعديل والتحقيق، وعلى هذا راح ينعى مبدأ التقليد، الذي كان له الأثر البالغ على كم النتاج التاريخي، ومن هذا فإن الاستثمار الواعي الذي تحقق لابن خلدون إنما جاء من واقع الإفادة التي وضعها علماء البلدانيات والسياسة والخراج والاقتصاد وتاريخ الأمم والتاريخ الثقافي والفكري والمذهبي. (14).
جاء الاشتغال التاريخي، ضافيا محددا بوصفة منهجية حتى ليمكن وصفها بالمصفوفة الخلدونية، تلك التي تحرص على :
1.رصد عمل المؤرخين تمييز حقل الاشتغال المهني بدقة عالية، حتى لكأنه يحاول وضع شروط وظيفة المؤرخ.
2.ترسيخ معالم العقل الواعي عبر التركيز على النقد التاريخي، والولوج في المقارنات ورصد المفارقات والوهن ومواطن القوة.
3.الاستفادة النابهة من العلاقة بين الأجيال، من خلال التركيز على دراسة علاقة النسب والتحقق منها، وتوظيفها كعلاقة تحقيق واشتغال,و ليس أداة للتبعية وترسيخ الأوهام. (15)
4.الحرص على الخبر التاريخي، ومن هذا تكون العناية بالبحث عن الطريقة التداولية له، وهو لا يكتفي بوضع الخبر وصفه في منظومة خبرية، بقدر ما يكون السعي نحو ترميم العلاقة لقائمة بين الأخبار بروح الباحث النابه والمدقق العاقل النائي بنفسه عن المؤثرات والتحزبات والانتماءات الفرعية، وبهذا فإن التطلع يبقى مفصحا عن محاولة نابهة نحو إخراج الخبر من سطوة وهيمنة السياسي ودمجه في السياق الاجتماعي.
إشارات وإحالات:
1.محمد الحداد، حفريات تأويلية في الخطاب الإصلاحي العربي، دار الطليعة، بيروت 2002.
2.سعيد بنكراد، مدخل إلى السيميائيات السردية، تانسيفت، مراكش 1994.
3.ميشال فوكو، حفريات المعرفة، ترجمة سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، بيروت 2005.
4.اعتمدنا على طبعة المقدمة، باعتناء ودراسة أحمد الزعبي، دار الأرقم، بيروت لاتاريخ، ص ص41-64.
5.علي الوردي، منطق إبن خلدون، دار كوفان، بيروت 1994. ص 63.
6.علي أومليل، الخطاب التاريخي دراسة لمنهجية إبن خلدون، معهد الإنماء العربي، بيروت، لا تاريخ، ص 168.
7.بنسالم حميش، الخلدونية ومرآة فلسفة التاريخ، مجلة الاجتهاد، العدد 22، ص 114.
8.عبد الله العروي، ثقافتنا في ضوء التاريخ، المركز الثقافي العربي، بيروت 1997، ص 66
9.عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، المركز الثقافي العربي، بيروت 1997، ص28.
10.أدونيس، الثابت والمتحول، دار الساقي، لندن 2002، ج4، 48.
11.محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، بيروت 2000، ص 552.
12.محمد لطفي اليوسفي، فتنة المتخيل، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ن بيروت 2002، ج 1، ص 189.
13.حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، دار الفارابي، بيروت 2002، مج 2 ص 385.
14.وجيه كوثراني، التاريخ ومدارسه في الغرب وعند العرب، الأحوال والأزمنة للطباعة والنش، بيروت 2001، ص 104.
15.محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، ص 241.
التعليقات