د. رياض عبد

يحلو للبعض إعطاء تحليلات تبسيطية للفوضى والعنف وموجة الأعمال الإجرامية التي أعقبت سقوط النظام العراقي. فالكثيرون على سبيل المثال هم على قناعة بأنه لولا حل الجيش العراقي لما نهبت مباني الدولة العراقية و لما إنتشرت موجة التدمير والعنف والقتل العشوائي في مختلف المدن العراقية وخصوصاً بغداد. ولكن إستمرار الفوضى بعد ثلاث سنوات من السقوط وبعد تجنيد ما يزيد على مائتي ألف شرطي وجندي في البلاد يتطلب وقفة متمحصة وتحليل متعمق.
علينا أن نسأل ما هي الأسباب التي جعلت عشرات الألوف من العراقيين (أو حتى مئات الألوف) تتجه لنهب المدارس والمستشفيات والمستوصفات والتي هي مرافق خدمية لم تكن يوماً أداة قمع أو أذى لأي شخص؟ ثم لماذا إستسهل هذا العدد الهائل من العراقيين إستخدام العنف المفرط كالخطف والقتل لتحقيق مآرب مالية أو سياسية بوحشية غير مسبوقة؟
إن هذه الظواهر الإجتماعية المرضية سوف تحتاج بلا شك الى دراسة متأنية لفهم الأسباب السيكولوجية التي أدت الى إنكسار اللحمة الإجتماعية وإنفلات العنف خارج حدود السيطرة.

ولكن أود هنا أن أسلط الضوء على ظاهرة خطيرة تحدث في أنحاء مختلفة من العراق هذه الأيام لم يتم الإنتباه لها كثيراً في خضم حمامات الدم اليومية الا وهي موجة النهب والإبتزاز المنظم للجاليات العراقية غير المسلمة. إن الذي يحدث اليوم هو بمثابة quot;فرهودquot; (مصطلح في اللهجة العراقية الدارجة تعني السرقة والنهب العلني) هو أسوء بكثير من الذي حصل ليهود العراق والجناة هم الآلاف من العراقيين بين منتفع ومتعاون أو مجرد ساكت على هذه الجرائم النكراء. فالذي حصل ليهود العراق في أربعينيات القرن الماضي على فظاعته لم يدم سوى أيام قليلة وأثناء حدوثه بادر الكثير من العراقيين الغيارى الى الدفاع عن اليهود عملاً بواجبات الجيرة وحق الدخالة وغير ذلك من الأعراف الشعبية العراقية التقليدية. و لكن ما يجذب الإنتباه الآن هو سكوت السلطات الحكومية المركزية والمحلية وسكوت الأحزاب السياسية والمراجع الدينية والعشائرية (الا القليل منها) مع العلم أن السرقة العلنية والتهجير المنظم لغير المسلمين كان قد إبتدأ قبل الموجه الطائفية الأخيرة بين الطائفتين السنية والشيعية بمدة طويلة.
إن السرقة المنظمة للمسيحيين والصابئة و غيرهم تجري في وضح النهار وتشمل إضافة للإبتزاز المالي، الإستيلاء على العقارات بما فيها الأراضي والبناء عليها دون إذن أو سند شرعي خلافاً لكافة القيم الإجتماعية والعشائرية والدينية وطبعاَ خلافاً لكل القوانين .
إن ما يحدث لغير المسلمين في العراق اليوم لا يمكن تعليله بالتوتر الطائفي السني-الشيعي فالمعروف أن الطوائف غير المسلمة في العراق هي مسالمة تماماً ولم تشكل يوماً تهديداً لأي كان. كذلك فإن هذه الظاهرة ليست مقصورة على منطقة دون أخرى، ففيما عدا كردستان والتي تتمتع باستقرار نسبي فإن غير المسلمين أصبحوا لا يأمنون على أموالهم أو حياتهم في أي منطقة أخرى من العراق شيعية كانت أم سنية وهناك حالات موثقة في الموصل وبغداد والبصرة وغيرها.
فما هو تعليل هذه الظاهرة الخطيرة وما هو تعليل السكوت المطبق للجهات المتنفذة من المجتمع العراقي عن هذه الممارسات؟ لماذا أدار الكثير من المسلمين العراقيين ظهورهم لأبناء هذه الطوائف العراقية العريقة والتي شكلت جزءاً حيوياً من النسيج الإجتماعي لوادي الرافدين منذ أقدم الأزمان والمعروفة بوداعتها وأدبها وخدماتها الجليلة للعراق؟
في رايي أن الردة الحضارية المروعة التي يمر بها العراق اليوم والتي أرجعته قروناً الى الوراء مردّه الى عاملين رئيسيين. العامل الأول هو إشاعة قيم البداوة ومعاداة المدنية والتمدن بفعل سيطرة أشباه البدو على مقدرات الدولة العراقية لأربعة عقود جرى خلالها تدمير مبرمج للطبقة الوسطى العراقية والتي هي عماد التطور والتمدن في أي بلد. أما العامل الثاني فهوهيمنة ظاهرة الإسلام السياسي هيمنة شبه مطلقة على الشارع العراقي والذي بدأ قبل سقوط نظام البعث ثم تصاعدت وتيرة هذه الهيمنة بعد السقوط.
أن الإسلام السياسي هو في الحقيقة حركة مبتكرة و حديثة و يجب عدم الخلط بينها و بين الإسلام كديانة وطقوس وعبادات. وأنا أزعم بأن حركات الإسلام السياسي هي مسبب رئيسي للردة الحضارية التي تعاني منها الكثير من البلدان العربية والإسلامية والعراق اليوم هو الضحية الكبرى لها.
إنّ من الملفت للإنتباه بإن حركات الإسلام السياسي على إختلاف مذاهبه تعتمد العنف كوسيلة رئيسية لتحقيق غاياتها السياسية. وبينما قامت بعض حركات الإسلام السياسي كحماس في فلسطين و حزب الله في لبنان بإنشاء شبكة من الخدمات الصحية والإجتماعية الى جانب التنظيمات العسكرية فإن تنظيماتهم في الجزائر والعراق هي بالأساس عبارةعن فصائل مسلحة وتنظيمات حزبية سياسية بحتة. وبالطبع فإن تنظيم القاعدة يمثل القمة في التركيزعلى مهمة واحدة لا غيرها وهي ممارسة العنف ضد أي جهة لا ترضخ لإرادتها.
إن ما يميز حركات الإسلام السياسي عن الحركات الثورية الإشتراكية أو الشيوعية التي سبقتها هو إستخدامها للعنف المفرط ضد المدنيين وعدم الإكتراث بمصير الأبرياء أو الدمار الذي يحصل للممتلكات . إن التصعيد المستمر للعنف السياسي غير المسبوق من قبل قوى الإسلام السياسي خلال ال 10-15 سنة الأخيرة والضرب عرض الحائط بكل القيم الإجتماعية التي تدعو لحقن دماء غير المقاتلين وتحريم المس بأموالهم وغير ذلك لصالح قيم ثورية عدمية قد أدى الى أن تصبح هذه المنظمات عبارة عن ماكينات مهولة للقتل الجماعي العشوائي بدعوى إلحاق الضرر بالأعداء (الصليبيين، الصهاينة...الخ).
إن عملية تمجيد العنف في منطق الإسلام السياسي بدعوى الجهاد والذي هو أشبه ما يكون بالهوس الجماعي قد أدى الى إنهيار أخلاقي مروع مما سهل في حلحلة الروابط الإجتماعية والتخلي عن الكثير من القيم الإنسانية ولإجتماعية الفطرية وشجعت على العنف نحو الآخر لا لشيء الاّ لكونه مختلفاً.
إن ما يميز الإسلام السياسي هو الإعتقاد الراسخ بامتلاك الحقيقة الالهية وبالتالى الحق الإلهي بإجبار الآخرعلى أن يفعل مايريد. إضافة لهذا يستخدم الإسلام السياسي منطق إستباحة ممتلكات أو دماء الغير بشكل ينكر على الآخر إنسانيته. ففي الكثير من مناطق العراق بدأت مضايقة المسيحيين بدعوى بيعهم للخمور ثم تطور الى إستباحة أموالهم بدعوى أنهم كفرة ثم أخيراً إستباحة دماءهم بحجة أو بدونها. كذلك ولأول مرة في تأريخ العراق الحديث أو القديم تم تفجير و حرق وتدمير الكنائس ودور العبادة غير الإسلامية في أنحاء مختلفة من العراق.
إن الخلطة القيمية والثقافية المكوّنة من البدوية الفوضوية التي أسسها حكم القوميين و البعثيين الآتين من القرية من جهة والإسلام السياسي من جهة أخرى قد أنجبت حالة ساكولوجية-إجتماعية تتميز بالنفور من الآخر(المختلف في الدين أو الطائفة أو العرق...الخ) وإنكار حق الآخر في الوجود إضافة الى إزدرائها لكل القوانين الوضعية.
إن من المحزن أن ينزلق العراقيون الى هذا الحضيض الأخلاقي المتدهور في نفس اللحظة التاريخية التي شهدت نهاية دولة الإسبتداد البعثية.
إن التنظيف العرقي والمذهبي الذي يجري اليوم في العراق ضد المسلمين وغير المسلمين هو نتيجة إختلاط قيم البداوة مع الآيديولوجية الصاعدة للأسلام السياسي ولن يعود الإستقرار في العراق حتى تبدأ هذه الآديولوجية المدمرة بالإنحسار. وللأسف لن يحدث هذا حتى يدرك الفرد العراقي العادي بأن بالإمكان أن يكون المرء مسلماً تقياً صالحاً و في نفس الوقت مناوئاً للإسلام السياسي. و لحين أن يتوصل العراقيون الى هذه القناعة سوف تستمر ماكنة القتل الجماعي في حصد أرواح الأبرياء وسوف يستمر الأوباش في تدمير ما تبقى من علامات المدنية في هذا البلد المبتلى