كان يوم الإثنين الخامس من حزيران (يونيو) عام 1967 يوما مشهودا في تاريخ العرب والشرق الأوسط المعاصر، فقبل 39 عاما بالتمام والكمال تهاوت وعلى حين غرة أنظمة الشعارات التخديرية والأغاني الحماسية، والتحريضات الإنقلابية، وتداعت كعصف مأكول وأضحت صيدا سهلا ورخيصا للآلة العسكرية الإسرائيلية التي لم تصدق نفسها وهي ترى أن (العقبة) ليس فيها كسر رقبة!!، بل إن إستحمام الجندي الإسرائيلي في سواحل (شرم الشيخ) الساحرة الرائعة كان المقدمة لإنهيار أنظمة الكذب والصراخ والتدجيل و (الفشخرة) العسكرية لضباط فاشلين قفزوا على السلطة وتحكموا برقاب ومصائر الجماهير في ليل بهيم، وتلاعبوا بالشعارات وحولوها لمهزلة، فشعار من طراز (إرفع رأسك يا أخي) سرعان ما تحول ل (لكرابيج) تطحن عظام وظهور المناضلين في المعتقلات الحربية وسجون الواحات والمخابرات! وتحول عصر الجماهير لعصر هيمنة القائد الأوحد الذي لم يخلق مثله في البلاد والذي أسكرته هتافات الجماهير حتى تصور نفسه ربا ثانيا للعباد والبطل الأسمر ونبي العروبة الأسمر..! وغيرها من الشعارات العاطفية المهلكة، والتي أستعارتها أنظمة عربية أخرى وهي تشيد تجربتها الفاشية التي إنتهت بالإحتلال والضياع والخسران!، وهزيمة الخامس من حزيران التاريخية ليست كغيرها في تاريخ الهزائم في الشعوب الحية، لأن تلك الهزيمة والتي تكررت منها نسخا كثيرة وأشد ظلامية وبؤسا فيما بعد لم تتسبب بها الجماهير مثلما تسببت بها الأنظمة العسكرية التي فشلت في الحرب والسلام والبناء الإجتماعي لتحكم الجهلة وسيادة الغرور وإحتقار الجماهير وتطبيق النظريات الخيالية والطوباوية وبعدها عن فهم الواقع الدولي ووقوعها في حبائل عبادة القائد الفرد الأوحد الفاشية التي لا تسمح بمناقشة ولا تعطي مجالا لنقد، بل تريد جمهورا غبيا ومسيرا بكرابيج المخابرات يهتف للقائد ورفاقه وينتظر المنح والعطايا والإكراميات من (أفندينا ولي النعم) الذي تزين كتفه وصدره أوسمة النصر التي حصل عليها من معارك لم يخضها من الأساس!.
ليس عيبا أن تهزم أمة، وليس عارا أن يكسر جيش، فقد مرت في تاريخ الأمم الحية القديم والمعاصر لحظات تراجع وهزيمة و إنكسار تحولت لجزء حيوي وفاعل من تاريخ تلك الأمم التي إستفادت من دروس الهزيمة أكبر إستفادة وشكلت منعطفا نحو التألق وإعادة البناء وترميم الذات ومعالجة الأخطاء وتحصين الهمم ورفع مستوى الإرادة، فقد هزمت الأمة الفرنسية والبريطانية والألمانية واليابانية والصينية ودار التاريخ دورته لتتحول الهزائم المريرة لإنتصارات متألقة إلا في الحالة العربية التي إستوطنتها الهزائم حتى أدمنتها وأصبحت هي القاعدة والنصر هو الإستثناء، فبعد هزيمة 1967 حدثت متغيرات سياسية واسعة في الجسم العربي حيث إستطاعت أنظمة الهزيمة البقاء والتعايش مع الكارثة!! وكان ذلك حدثا غريبا فالمهزوم تحول لمنتكس!! والهزيمة المرة والمخزية تحولت لنكسة وضياع الأرض والعرض والكرامة تحول لمساومة تاريخية في فن البقاء السياسي!! بل أن الهزائم قد تحولت لحالة وراثية وجينية وجاءت للعالم العربي أنظمة فاشية متسلطة وغبية في سلسلة الإنقلابات العسكرية بدءا من العراق عام 1968 الذي عاد فيه البعث الفاشي للسلطة مدشنا لمرحلة منهجية جديدة ومبرمجة وببرنامج تدميري للعراق والعالم العربي إنتهى بالكارثة التي يعيشها العراق الحالي الموشك على الضياع التام وليس إنتهاءا بإنقلابات السودان المتكررة التي جعلت من ذلك البلد الغني يتحول من سلة فواكه العالم العربي لسلة مهملاتها!! بسبب نخوة وعزيمة ومغامرات أهل العسكر وما يفعلون؟.
لقد كانت العقود الأربعة التي أعقبت الهزيمة مرحلة مكفهرة سوداء لم تستطع إستيعاب دروس الهزيمة ولا الإستفادة من تجاربها! بل كانت سلسلة من النكسات التي تخللتها نقاط إيجابية هنا وهناك لم تصل لحد مستوى التطور والتغير الستراتيجي، وكانت كل التطورات الدموية المتسارعة التي هزت العالم العربي تكريسا لتلك الهزيمة فلم تستطع الأنظمة (الثورية) المزيفة أن تفي بوعدها بالثأر من الهزيمة كما أعلنت في بياناتها الإنقلابية المعروفة بل تركت العدو الحقيقي وإستدارت لتحقيق مهمتها في تكسيح العالم العربي كما فعل نظام البعث العراقي البائد من خلال غزوه وإحتلاله لدولة الكويت عام 1990 ووضعها في مجال المساومة الرخيصة من خلال ذلك الشرط المخزي المتمثل في الإنسحاب من الكويت مقابل الإنسحاب الإسرائيلي من الأرض العربية المحتلة!!، أو كما فعل نظام البعث السوري الذي فشل في ستر عورته التاريخية وتحرير الجولان فإنقلب نحو لبنان الصغير والجميل والمسالم ليحوله مزرعة له ولأطماعه وتخبطاته عبر الإحتلال الطويل الذي بلغ عقودا ثلاثة مرة وعجفاء!!.
واليوم.. والعالم بأسره يقف على أعتاب مرحلة كونية جديدة ومختلفة تظل هزيمة الخامس من حزيران شبحا تاريخيا شاخصا يؤشر على مدى خيبة أنظمة الفاشية والهزيمة التي لم تحصد سوى العواصف المدمرة..!، وتظل للهزائم حكايات وأساطير.
- آخر تحديث :
التعليقات