بين المقاصد النبيلة والأخطار الممكنة
بعد ساعات قليلة من الجلسة 34 في 13/4/2006، قرر رئيس المحكمة القاضي رؤوف عبد الرحمنتحويلها الى جلسة مغلقة وانقطع النقل التلفزيوني تبعاً لذلك. فقد قام المتهمون وأغلب شهود الدفاع ومحامي المتهمين في الجلسات الماضية بترديد شعاراتهم المهينة للشعب العراقي مستغلين الحماية القانونية التي وفرها النظام الجديد لهم. وقد تمثلت الذروة بافادة سبعاوي الذي أشاد مرات عديدة وبدون مناسبة بالسيد quot;القائد صدامquot; وامتدح مطولاً المتهم الآخر طه الجزراوي ثم وصف ضحايا الدجيل بصفات مهينة. وعندها لاحظ القاضي أن أسئلة المحامي لشاهد الدفاع كانت موجهة بشكل يسمح لسبعاوي بتكرار ادعاءاته وتزييفه للحقائق، انتفض ضد ممارسات المحامي المهينة للشعب العراقي. وفي الواقع لم يكن ذلك بالأمر الجديد اذ هدفت هذه الاستعراضات دائماً الى إضاعة الوقت وابعاد لحظة القرار، ولكن بعد أن أخرج المتهم برزان التكريتي، صاحب الملاحظات quot;التوجيهيةquot; المملة من الجلسة السابقة لتطاوله على هيبة المحكمة، هدف رئيس المحكمة في قراره الأخير الى تذكير المتهمين وهيئة الدفاع بأنه سيلجأ الى ذلك كلما تمادوا في استغلال النقل التلفزيوني لبث دعايتهم المملة، ثم عاد النقل التلفزيوني في جلسة بعد الظهر.
ويؤكد قرار القاضي بتعليق النقل التلفزيوني ما ذكرته في مقالة سابقة (انظر إيلاف 6-4-2006) بأن النقل التلفزيوني للمحاكمة يشكل أحد النقاط التي تثير الجدل حول إنشاء المحكمة وتنظيمها الأساسي. حيث من الصعب الاقتناع بأن جهة عراقية مسؤولة يمكن أن تتخذ مثل هذا القرار الا اذا كانت غير واعية
أ- بوضعية القضاة العراقيين الخارجين للتوّ من فترة العبث بالعدالة
ب- وأن هذه المحاكمة تقوم على قواعد دولية لا خبرة للقضاة العراقيين بها (جرائم الابادة وضد الانسانية) ج- وبما يترتب على النقل التلفزيوني من تعميق الطابع السياسي للمحكمة، بينما أريد لها أن تكون محكمة جنائية مختصة. فرغم أن المحكمة الجنائية لقادة سابقين اقترفوا جرائم من موقع السلطة هي محكمة ذات طابع جنائي وسياسي في نفس الوقت، الا أن المسؤولين عنها يصرون على اعتبارها جنائية وحسب، وفي نفس الوقت يتناسون أن نقل المحاكمة تلفزيونياً وطرح مجرياتها على الساحة العامة يضفى عليها بعدأ سياسياً لا يمكن انكاره.
مقاصد وتبعات:
المفروض في أية محاكمة أن تهدف الى احقاق الحق باصدار الأحكام العادلة بحق المتهمين الماثلين أمامها. ويهدف الاعلام عنها وعن مجرياتها الى تربية الناس على الالتزام بالقانون وقبول قرارات العدالة والتخلي عن نزعات الانتقام الفردي والتعسفي. أما النقل التلفزيوني (شبه المباشر) وخصوصاً في حالة محاكمة صدام حسين ومعاونيه فيراد منه اضافة لذلك تحقيق ما يسمى بالمعالجة الجماعية، أي لأكثر ما يمكن من الناس في العراق والبلاد العربية. وسواء كان قرار النقل التلفزيوني اتخذ عراقياً أم أمريكياً فان الهدف معقول وبنّاء ويتمثل بمحاولة تخليص المجتمع العراقي ولو تدريجياً من نزعات الانتقام من المتعاونين مع السلطة البائدة وقد حرمت هذا الانتقام أيضاً فتاوى المرجعيات الدينية في النجف.
وبالنسبة للنقل التلفزيوني، يساهم المنظر المتكرر على الشاشة لمجرمين (في نظر الشعب) يحاكمون على ما اقترفوه من جرائم من جهة الى قبول المحكومين (أي الضحايا) بالتخلي تدريجياً عن رغبتهم الدفينة بالانتقام الشخصي، أي التخلي لصالح العدالة التي سيتعود الناس على تقبل إجراءاتها وما يعنيه ذلك من الاصطبار وتبديد التوتر. ومن جهة أخرى، تؤدي المشاهدة المتكررة الى تركيز الضحايا حقدهم وإدانتهم على quot;هؤلاءquot; المجرمين الكبار quot;تاركينquot; أو مُقللين بالأحرى وبدون وعي من غلوائهم
على quot;المجرمين الصغارquot; أو القريبين، أي عموم من يمكن اتهامهم باقتراف جريمة المساهمة والمعاونة في اقتراف جرائم النظام البائد بكتابة التقارير مثلاً. إضافة الى ذلك تقوم هذه المحاكمة بدور التقريب بين قطاعات الشعب المختلفة فالناس المتأثرين بدعاية النظام السابق وعند اطلاعهم تدريجياً وبشكل منتظم على سجل الجرائم المروعة وتفاصيلها سيدخل في وعيهم فظاعة الجرائم التي ارتكبها نظام صدام بحق بني جلدتهم والتي لا يمكن لأي انسان تقبلها. وبالتالي ستساهم في التقريب بين أبناء البلد الواحد ومد الجسور بين الفئات المتباعدة دون علمها أحياناً.
في المقابل، فيما يتعلق بالتبعات ينبغي الحذر حيث أن الاستخدام المناسب لهذا الأسلوب يمكن أن يؤدي الى نتائج ايجابية مهمة على صعيد تنقية الأجواء الاجتماعية، كما ذكرنا. لكن إساءة استخدام النقل التلفزيوني أو المبالغة في عرض حرية المجرمين في الكلام والاستهزاء يمكن أن يؤديان الى عكس المطلوب، بل إلى نتائج خطيرة. إذ من الخطأ ترك الحبل على الغارب لهؤلاء المتهمين في سب الضحايا وذاكرتهم الجريحة وفي ترديد مقولاتهم المتغطرسة، عندها يمكن أن ينقلب الناس على العدالة الجديدة، اذ صار البعض منهم يقول اذا كانت هذه هي الحضارة فأهلاً بقانون الغاب ولننتقم ممن نقدر عليه قبل فوات الأوان. ولذلك ربما لعبت مجريات المحاكمة دوراَ في تصاعد موجة الانتقام (الفردي واللا شرعي) من بعض رجالات النظام السابق في الفترة الأخيرة. لذلك فان تسلم القاضي رؤوف عبد الرحمن رئاسة المحكمة في بداية السنة الحالية كان بمثابة المنقذ، في نظري، لهذه المحاكمة من هذا التدهور الخطير لو هي استمرت على طريقة رئيسها السابق، القاضي روزكار أمين مع كامل الاحترام لشخصيته ونزاهته المهنية.
في ظل هذه الظروف، لم يعد مهماً التساؤل عن الذي اتخذ قرار استخدام النقل التلفزيوني شبه المباشر لهذه المحاكمة، بل المهم الآن التذكير فيما يخص المرحلة المقبلة والمحاكمات القادمة بالخصوص بأن قانون المحكمة الجنائية المختصة، كانون الأول (ديسمبر) 2003، لم يشر الى موضوع استخدام وسائل الاعلام لنقلها بشكل مباشر أو شبه مباشر. وقد ذكرت المادة 21-
رابعاً: quot;تكون جلسات المحاكمة علنيةquot; إلا إذا قررت المحكمة جعلها سرية لأسباب محدودة جداً. وصفة العلنية طبعاً لا تعني بالضرورة النقل التلفزيوني بل حضور مندوبي وسائل الاعلام مع إمكانية حضور الجمهور بشروط معينة تقرضها طبيعة المحكمة. لذلك نتمنى
1- أن يتم تحديد النقل التلفزيوني قدر الامكان على الجلسات المهمة لما ينطوي عليه من مخاطر وتداعيات ولملل الجمهور منها كما يبدو ذلك واضحاً من تغير موقف العديد من القنوات العربية وحتى العراقية التي كانت تنقل لمحاكمة بانتظام في البداية وبدأت بتقليل ساعات النقل وحتى الكف عنه نهائياً.
2- أن يتوجه القائمون على التسجيل الحالي الى التفكير أيضاً باستخدام التسجيلات المحددة لتبيان مجريات المحاكمة المهمة والى إصدار البلاغات وعقد المؤتمرات الصحفية.
ان هذا هو الحل الأمثل لتوفير العدالة ومنح صدام وجماعته حق الدفاع المشروع دون السماح لهم باستغلال النقل التلفزيوني والتمادي في اهانة العراقيين وذاكرتهم عن تسلط نظامهم المقيت. ويوفر هذا الحل في نفس الوقت اعلاماً متوازناً بفضل حضور وسائل الاعلام، الا اذا ارتأى رئيس المحكمة عكس ذلك. ويضمن أيضاً التواصل الأمثل بين مجريات المحاكمة والحقائق التي تكشف عنها وبين الجماهير الواسعة خصوصاً في العراق والدول العربية دون الوقوع في الملل والاسراف في تضييع وقت المشاهدين. وبالتالي يتم التوصل الى المطلوب بأسلوب متوازن وبدون التعرض لأخطار غير محسوبة..
التعليقات