الاعلام لسان الدولة، الدولة وليس الحكومة، واقول لسان، واريد، الامساك بالتمييز اللغوي بين الكلام واللسان، ايضا، فلسان الدولة هذا قد يظهر بصحيفة او مذياع او تلفاز او اي وسيلة اعلامية.. انها تمظهرت للسان الدولة، ومثلما للسان (اللغوي) قواعده فللسان الدولة الاعلام، قواعده ايضا، هذه القواعد تتشكل عبر تراكم الممارسات الخاصة ضمن التمظهرات اللسانية (في كل شكل (كلام) من اشكاله... واذا كانت هناك قواعد عامة (اصبحت متوارثة) عن تشكيل الكتابة الاعلامية وتوزيعها .. فان ما أراه مهما الحديث عن القواعد الاجتماعية المشكلة للخطاب الاعلامية، وليس الشكلية الداخلية لهذا الخطاب.. وهنا فيما يتعلق بخطابنا الاعلامي العراقي فان هذا يمنحنا القدرة على الامساك بجملة مفاصل مهمة على صعيد العلاقة بين الاعلام والسياسة.

من المهم الوقوف عند تجربة الاعلام الاولى في - تجربة جريدة الزوراء، الاذاعة، التلفاز.. انها تجارب صنعتها الحكومة ومن ثم كانت في عمومها منحازة لخطاب الحكومة كيف ما كان شكلها.. او شكل القائمين عليها. فهي ملكية مع الملك عسكرية مع العسكر، وديكتاتورية مع الديكتاتور، ديمقراطية مع الديمقراطي.. قد يبدو هذا الامر طبيعيا بالنسبة لاعلام الحكومة.. لكن ما يثار اليوم هو اننا لم نكن نمتلك اعلام دولة، ومن ثم كان معظم الاعلاميين هم موظفين، الامر الذي ولد ما يمكن تسميته (شيزوفرينيا اعلامية او فصام اعلامي .. اذ ان الاعلامي نفسه الذي كان يمجد الملك اصبح يمجد الرئيس وكان قد يتحدث البعض عن سنوات الحرية في العهد الملكي ولو رجعنا الى المصادر المتعلقة بهذه المرحلة سنرى ان ضغط الدولة احال معظم المنابر الاعلامية الى منابر رسمية، وعدم دعم الحكومة لهذه المنابر ساعد في هذا الامر فضلا عن تكريس سلطة صاحب رأس المال (بمحمول) على حساب صاحب الكلمة.. ولكن مع ذلك كانت هناك صحافة حرة استطاعت ان تبرز مشاكل المجتمع وتقف عند سلبيات الحكومة، لكنها في الغالب لعبة لعبت الضدية فاكتسب اعراق صحافة الحكومة نفسها، بتصويرها ان اللحق طريق اوحد هو الذي تسير عليه هي فحسب .. برغم هذا اقتلعت هذه الجذور بسيطرة العسكر على مفاصل الدولة، وتقلهم لاخلاق الطاعة العسكرية الى الفضاء الاعلامي مما سبب في تعزيز تمظهرين للاعلام، الاول الملمع للسلطة والاخر البيراغوجي بروحه الابوية المقيتة.. ثمة حكومة يجب ان تظهر بأبهى صورها وثمة شعب جاهل علينا اعادة تربيته، على وفق هذا انبت ادوار (وظائف) الاعلاميين، بين ترفع الحكومة (المرسل)، وجهل (المستقبل) المرسل اليه، المفترض، انبنت (الرسالة) الاعلامية بطريقة مشوهة لم يستطع الاعلامي فيها ان يلعب دور مرسل كما هو مفترض في الاعلام الحر. قد يوجهنا البعض بالقول ان الاعلام في مختلف بقاع الارض، والمتمدنة منها خصوصا، كان صوتا لطبقة او فئة او حزب؟ ونجيب بان الاعلامي جزء من الطبقة، متمة لها، ومن ثم سيمارس دوره الطبيعي (المرسل)، ولكن ما يجري في العراق ان الاعلامي يرى في نفسه مجرد موظف عند هذا الحزب او ذاك.

وهذا يقودنا الى امر في غاية الاهمية يتعلق باعادة بناء المؤسسة الاعلامية العراقية في الوقت الراهن على كل مستوياتها (الحكومية، الحزبية، المستقلة) انها في الغالب اعتمدت الكوادر المتسرحة من اعلام النظام الفاشي، تحت مقولة الخبرة، والاعداد السابق، وعدم قدرتها على صنع اعلاميين جدد، اي انها نظرة الى الاعلام على انه مجرد مهنة، وليس لسانا، هذه المفارقة قادت الى ان تبنى الكثير من الصحف على وفق النسق السابق (المرفوض) لاعلام النظام الفاشي، فالاعلامي الذي مارس دوره السابق في التلميع والتعليم .. ليس بامكانه اليوم ان يغير ما تعلمه انما بامكانه ببساطة استبدال التسميات والشخوص فتحل الوحدة الوطنية محل الحزب القائد، ويحل الزعيم الفلاني محل الزعيم القائد، في حين فحوى الرسالة مازال يسير في الاتجاه نفسه وكأن التغيير الذي حصل هدم البنى التحتية فحسب، وهذا في المنطق الجدلي انقطاع غرائبي.. فتغير البنى التحتية بالضرورة تصاحبه تغيير في البنى الفوقية.. والاعلام لايخرج مطلقا عن دوره في التعبير عن هذا التغيير. قد يرى البعض في هذه الورقة محاولة لاقصاء الاعلاميين السابقين ولكن ما نريده، حقا، هو خلق صحافة حرة.. وهذا ما لن نستطيع الوصول اليه الا بتوفير كوادر حرة لم تعش وتكرس نفسها لعبودية اعتادتها. وسأقرب مثلا من واقع معاش.. جاءني الاستاذ فالح السوداني بمادة مترجمة عن العلاقة بين ايران والتنظيمات الاسلامية قرأت فيها الكثير من المساس بهذه التنظيمات - انها وجهة نظر صحفي امريكي - كان متخوفا من نشرها - فنشرتها، وحينها ضجت بعض الحركات الاسلامية، وحين اتصلنا بهم وافهمناهم اننا لسنا مع هذه المادة ولكن غايتنا ان نبرز كل ما يكتب عن القضية العراقية ولكم الحق في الرد ونفي التهم. تفهموا الموضوع برغم انه يمسهم كثيرا في اعلام (الاتجاه الواحد) الذي وضعت قواعده الفاشية البعثية. مثل هذا الامر لايمكن نشره، ومازال هذا الاعلام يحكم الكثير من الصحف الحالية، فالاعلامي يقوم اولا باستيعاد النقد، وثانيا يمجد الجهة التي تمتلك الصحيفة.. وهذا سيجعل من الصحيفة (ثورة او جمهورية) جديدة من الصعب على المواطن ان يقرأها.. لكن في الجانب الاخر هناك دور للسياسيين انفسهم يجب ألا نتغافله اذا ما اردنا اكمال الصورة، وهنا نبدأ بسؤال حساس: ما الذي يميز ساسة هذه المرحلة عن ساسة المرحلة الدموية السابقة؟ وهل التمييز كمي ام نوعي؟

اذا كان التميز كمي فهذا يعني استمرار الخطاب السلطوي السابق، وهذا بالتأكيد يعزز الاعلام الاحادي ولا يحتاج الا الى من امتلكوا خبرة في تلميع الشخصيات ورسم فضاءات جاهزة لحجومها المضخمة.. الامر الذي سينتهي بنا الى ان يتحول حديث الشارع الى مجرد معلومات استخباراتية تنقل الى القيادات الحزبية عبر الوسائل السرية، اما الاعلام فوظيفته مواجهة هذه الاحاديث وتصويرها على انها دس ومؤامرات والحديث عن منجزات الزعامات مع صور لكل حركة وتدوين لكل نفس. في حين ان التغيير النوعي يفترض وجود ساسة وعوا بحكم تجربتهم السابقة اهمية النقد في بناء الصورة وليس في تهشيمها.. انا احترمك اكثر عندما اجدك مصغيا لما اقوله وان كان بجانب الصواب. والاصغاء لابراز الامن خلال وسائل الاعلام.. فهل ثمة اصغاء فعلا.. ربما ستكون ظروف العراق الخاصة سبيلا لاجابة عن هذا الكلام.. لكن ماذا لو زالت.
المشكلة الكبرى في كلامنا السابق انه يوضح ان العلاقة بين الاعلام والسياسة هي علاقة تبعية.بعد السقوط راجت بعض الصحف التي قامت بتوليف وترجمة حكايات عن سقوط النظام وعن طبيعة الاسرة الحاكمة الفاسدة، ربما يعود سبب نجاحها انذاك الى انه الكثير من العراقيين لم يكن متصورا ان سقوط النظام البعثي سيكون بهذه السهولة.. السقوط السريع كان يحتاج الى الكثير من الحكايات الغريبة لتسويغه ولكن بعد تصاعد الاعمال الارهابية بدأت تخبو هذه الصحف كلما اشتدت وطأة الواقع، من دون بروز صحف تستطيع ان تستغل هذا التغيير العام لانه كما اعتقد لم يكن مدروسا، الى اي حد ستكون الحكاية نافعة.

هذه المشكلة تتصل بسياستنا كان يفترض ان يستغلوا روح الحكاية هذه لبناء حكاياتهم الخاصة، حكايات تمنطق التغيير، وتغير الصورة المشوهة التي رسمها النظام الدموي مهمة في اذهان الكثير من بسطاء الناس، ويفترض ان يصنعوا تاريخا جديدا عبر اعلام حر لا يسمعون من خلاله اصواتهم فحسب، وهي تردد خطب وكلمات حماسية وسط جموع تسبح بالدم، انه خطأ مازال متواصلا. صناعة الاعلام الحر لا يكون الا بشراكة فاعلة بين الاطراف الثلاثة: الساسة والاعلاميون والمجتمع. وليس باعلاميينا فحسب، لقد وفر ساستنا الكثير من الحكايات للصحافة الاجنبية، ولم يراع الكثير منهم الصحافة المحلية وضرورة تعزيزها، فالحرية هي ان يكون السياسي صاحب القرار على استعداد لفتح ابوابه لصحافته، وهذا ما لم نلمسه بشكل عام.. دائما هناك ابواب مقفلة لا تفتح الا لمحطات وصحف عالمية معروفة، وكأنه نجم سينمائي يبحث عن شهرة عالمية، هل هي مشكلة نجومية فعلا، او لنقل محاولة صنع كادرها عبر قنوات اتصال مشهورة من دون ان يعي ان شهرته خارج العراق لا تعصمه عند الناخب العراقي بل ربما اثارت الريبة به.. انه امر يتعلق بالترفع القديم.. في الوقت الذي يشعر فيه المواطن العراقي انه مسؤول عن وجوده على رأس منصب في مجلس النواب، يشعر السياسي انه انسان اعلى (سوبرمان) اخلاق السوبرمان اخلاق متوازنة من انظمة استبدادية طبعت وجه الشرق بطابعها، وفي ظل وجود ساسة بهذا الشكل، سيبقى الاعلام يمارس دوره التقليدي المعروف في معظم الانظمة الاستبدادية والذي اشرنا اليه بوضوح.