كصحفي محترف يعتبر حسنين هيكل أحد رواد الصحافة العربية، وككاتب له عدد ملحوظ من الكتب لا يستطيع الباحث في تاريخ مصر الحديث التغافل عنها إذا أراد أن يكون موضوعياً. وإذا كنا من المعجبين بهيكل أم لا فهذا لا يلغي حقيقة كون الرجل هو أحد ظواهر الثقافة العربية في القرن العشرين، فهو الصوت الإعلامي الأكثر تأثيراً لثورة يوليو المصرية 1952، وإذا كانت تلك الثورة قد تحولت، بعد أن استتب الوضع لعبد الناصر، إلى ظاهرة إعلامية تعبوية وتحريضية طبعت الثقافة العربية في الخمسينات والستينات بطابعها، فإن هيكل هو أحد أبرز وجوهها المؤثرة. لقد تم تعميم النسخة المصرية التحريضية تلك على مختلف البلدان العربية. وعلى هذا الأساس التحريضي التعبوي تراجعت المعرفة لصالح الإعلام وأصبح تسطيح وعي الجماهير مهمة قومية، لذلك ما أن حدثت هزيمة حزيران 1967 حتى انكسر الوجدان القومي على مختلف الأصعدة، فعلا صوت المراجعة النقدية والمعرفية ووجد الأدب العربي نفسه وجهاً لوجه أمام الوجدان الجمعي المجروح، فقد إنهزمت الظاهرة الإعلامية التحريضية أو خف وطأها وخف معها حضور حسنين هيكل.. إلى أن بدأ يستعيد أنفاسه لاحقاً وبطريقة مدروسة وضمن التيار العام لمراجعة التجربة. فصار يظهر علينا بين وقت وآخر بكتاب يستعيد فيه قراءة الوضع المصري خلال الفترات التي شارك فيها وشهد عليها، وتكون ردود الفعل عادة بين مؤيد وناقد ومعترض وهناك أكثر من كتاب يعارض آراء هيكل ومواقفه أو وجهات نظره.
لقد ظل الرجل حاضراً رغم كل شيء، فهو صحفي متميز شارك بالأحداث وتحمل مسؤوليات إعلامية وسياسية عديدة، وظل طرفاً في الحوار السياسي طوال أكثر من نصف قرن، وها هو يعود ليطل علينا كل مساء خميس من خلال فضائية الجزيرة ومنذ عدة شهور في حلقات متواصل يتحدث خلالها عن تجربته الذاتية والعامة في أحداث ثورة يوليو (تموز) 1952 وما سبقها ولحقها وعن بعض كواليسها ومفارقاتها، وهي تجربة غنية محتشدة بالأحداث الكبرى والصغرى بحلوها ومرها، ومرة أخرى بغض النظر عن قربنا أو بعدنا الفكري عنه وعنها.
أختار حسنين هيكل قناة الجزيرة كما قال في بداية حلقاته ليطل على الجمهور أسبوعياً وكأنه لا يريد أن يسمح لعصر الفضائيات ودورها الحاسم أن يفوته أو يهمشه. أنه رجل إعلام بامتياز، ولذلك لابد أن يكون له موقع في هذه المعمعة الجديدة المسماة عصر الفضائيات.
لكن كل تلك التجربة وهذا الدور والخبرة الطويلة، لم تسعف (المعلم) من الوقوع في خطأ تقني إذا صح التعبير !! فالدخول إلى عالم الفضائيات يستوجب فهم طبيعة جمهورها وحاجاته الإعلامية والثقافية دون تناسي الفرق بين الإنجرار وراء بعض رغبات الجمهور السطحية وبين مسؤولية تطوير وعي هذا الجمهور وذوقه وطريقة استقباله لظواهر الحياة. وكذلك الأخذ بنظر الاعتبار طبيعة الأساليب والتقنيات التي تعتمدها هذه الفضائيات، وهي تقنيات وأساليب لم تأت اعتباطاً، بل هي نتاج تجربة وخبرة، أي مقترنة بطابعها الحركي المتنوع بحكم حجم التنافس الكبير على استقطاب جمهور المشاهدين والضخ الإعلامي والفني والثقافي المتعدد الذي يلاحق هذا الجمهور عبر عشرات الفضائيات العربية والأجنبية.
وإزاء هذه الحقيقة فقد تميزت البرامج الفضائية الناجحة سواء أكانت تاريخية أم معرفية أم حوارية أم منوعات خفيفة، بطابع الحركة والتشويق المقترن بالمعلومات وأسلوب تقديمها دون استطراد أو تكرار ممل. وأكثرية هذه الصفات غير موجودة في أمسيات السيد هيكل !! واساس خطأه أنه لم يميز بين تقديم مادة تاريخية مهمة لها صفة المذكرات السياسية تُقدم عبر فضائية وبين سرد هذه المادة على صفحات كتاب حيث يسمح المجال بإيراد التفاصيل والقرائن والشخصيات وتفسير المواقف وربطها بما سبقها وكثرة الأسماء والأماكن.. الخ، حيث كل هذا يرد في أحدايث هيكل الأسبوعية ما جعلها ثقيلة على أكثرية المشاهدين الذين ينتمون في غالبيتهم إلى أجيال لم تعش الأحداث التي يوردها هيكل ولا تهمها تلك الأسماء الكثيرة التي ترد في ثنايا حديثه، لأن لا مكان لها في ذاكرتهم ولا أهمية لها في حاضرهم، ما يجعلها غريبة ودون سياق يغري أو يشجع على المتابعة.
أن ما يورده هيكل يمكن أن يكون مهماً لمجايليه والمهتمين بتلك الأحداث من باحثين أو سياسيين معينين، وهؤلاء لا يشكلون إلا نسبة قليلة من مشاهدي الفضائيات، وربما كان بعضهم لم يسمع بأسم حسنين هيكل أصلاً فكيف يهتم بتفاصيل تجربته ومنعطفاتها وتشعباتها التي دأب هيكل على إيرادها وكأنه واثق من أهميتها عند جميع المشاهدين! فهو يوردها بمتعة وتأكيد كما لو كان جالساً في جمع من أصدقائه القدامى، في حين أن تلك التفاصيل والتشعبات جعلت من أمسياته وكأنها طالت أكثر مما يجب، فقد استطرد الرجل كثيراً، في حين كان بوسعه اختصار الكثير منها والتركيز على ما هو مهم وجوهري من التحولات، وبما يتناسب مع تقنيات الفضائيات ومزاج جمهورها، خاصة وأن أمسيات هيكل تأتي في خضم أحداث سياسية يومية في مصر والعراق وفلسطين وغيرها هي أكثر أهمية وتأثيراً لدى الجمهور!
أن مظاهرة احتجاج في القاهرة أو تصاعد الإرهاب في بغداد أو إنعطافات الأحداث في فلسطين أو برنامج عن الأستنساخ أو مفاجآت أسواق المال في الخليج أو تغطية لمهرجان سينمائي أو أغنية جديدة لنانسي عجرم أو أصالة.. هي أحداث ومواضيع خلقت مزاجاً عاماً عند جمهور المشاهدين لم يعد معها بالإمكان استساغة مذكرات سياسية عن الثورة المصرية تم تكرارها مراراً عبر أفلام ومسلسلات وبرامج مذكرات قبل أحاديث هيكل ومعها، ولو قارنا بين طريقة هيكل وبين البرنامج الأسبوعي (أيام السيد عربي) الذي تقدمه فضائية العربية ويسرد نفس الوقائع، لوجدنا الثاني أكثر تشويقاً وأغنى مادةً، إذ يساهم فيه عدد من المشاركين بالأحداث مع مادة وثائقية معقولة يتم سردها بصفتها محطات حياة المواطن (سيد عربي) المغلوب على أمره والمندهش بما يدور حوله من تحولات (ثورية)!
أن خطأ هيكل التقني لا علاقة له بأهمية الموضوع أو المواضيع التي يتناولها، بل في الأسلوب أي في طريقة تقديمها أو في غياب المونتاج الضروري الذي يميز بين مادة ملائمة للبث الفضائي وتلك التي تجد مكانها المناسب في كتاب مذكرات أو بحث تاريخي، ومع ذلك وكمشاهد أرجو من السيد هيكل أن يسلط الضوء على المصير المأساوي للرئيس محمد نجيب الذي تكرر أسمه مراراً في أحاديثه، ولا أجد غضاضة في سؤاله : هل كان عبد الناصر منصفاً مع الراحل محمد نجيب؟! وهل يستحق الرجل كل المظالم التي لحقت به بعد عزله عن الرئاسة؟! نرجو منه أن يستطرد في هذه القضية بالذات أكثر من سواها، لأن شهادته هنا ستكون ذات دلالة مهمة.