لاتزال تثير ممارسة الرياضة وبخاصة كرة القدم لغطاً في اوساط المسلمين. ولا يكاد تمر برهة من الزمن الا وخرج علينا من يلعنها ويفتي بحرمتها على طريقة الـTake away)) اي الفتوى الجاهزة والسريعة عند الطلب وآخر ما جادت به عبقرية بعض (المفتين المعاصرين) هو ماصدر عن رجلي دين متشددين من فتوى تتعلق بتحريم كرة القدم احدهما سعودي والاخر عراقي ورغم تناقضهما مذهبياً الا انهما اتفقا هذه المرة من حيث لا يشعران في تحريم اللعبة المحبوبة.

فالاول اعتبر في سبب تحريمه لها انها (بدعة) و(كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) كما انها (تشبه بالكافرين). اما الثاني فقد اعتبرها (مضيعة للوقت) كما انها (مكيدة) من صنع (الغرب الكافر) بقصد الهاء المسلمين عن قضاياهم المصيرية ودليله على ذلك ان اسرائيل وامريكا لاتمتلكان فريقا لكرة القدم وفاته ان المنتخب الامريكي من المنتخبات التي ترشحت للمونديال وان خبراء الكرة يتوقعون ان تشهد كرة القدم ازدهارا وتطورا كبيرا في امريكا في السنوات القادمة هذا ناهيك عن ان امريكا تمتلك افضل الفرق والمهارات في اصناف الرياضية المتعددة وهذا ما تشهد به الدورات الاولمبية حيث تحصد فُرق (الشيطان الاكبر) و(الغرب الكافر) اكثر الميداليات والجوائز.

بعد هذه المقدمة ادلف الى صلب الموضوع فأقول ان هذه الفتاوى تعكس نمط التفكير السائد لدى بعض المسلمين تجاه مجالات الحياة المختلفة ونظرتهم اليها والتعاطي معها ومن ضمنها الرياضة، ولا ابوح سراً اذا ما قلت ان المفتي الاول هو من اتباع المدرسة الوهابية التكفيرية التي باتت تمثل غدة سرطانية في جسد الاسلام لابد من استئصالها، اما الثاني فهو من اتباع المدرسة الثورية في الاسلام السياسي وللمدرستين حضورهما الواضح في حياة المسلمين في يومنا هذا.

وقد يتسائل القارئ اللبيب عن علاقة الليبرالية بالرياضة وهل توجد ليبرالية رياضية؟ وللاجابة نقول نعم هنالك علاقة طردية بين الليبرالية وبين الرياضة. بمعنى انه كلما ازدادت ليبرالية المجتمع تطورت الرياضة فيه والعكس صحيح فكلما قلت الليبرالية وازداد التشدد والمحافظة في المجتمع تخلفت الرياضة فيه. وتكاد تكون هذه قاعدة عامة وبالطبع لكل قاعدة شذوذ واستثناءات. وبكلمة اخرى كلما توفرت المجتمعات على الليبرالية بشقها الاقتصادي والذي يؤكد على اقتصاد السوق والمنافسة الحرة ويؤكد كذلك على الحرية الفردية، وبشقها السياسي الذي يقوم على الايمان بإستقلال الفرد ذاتيا ويؤكد على الحريات السياسية والمدنية وحقوق الانسان كلما تطورت حياة تلك المجتمعات وتقدمت بما فيها الرياضة وكرة القدم. فطبيعة النظام السياسي والاقتصادي تنعكس على مجمل حياة الفرد والمجتمع. فعلى سبيل المثال في الدول ذات النظم السياسية الليبرالية حيث تسود مفاهيم حقوق الانسان والحرية الفردية واقتصاد السوق الذي يقوم على التنافس الحر تجد ان هذه المفاهيم تنعكس بشكل تطور وتقدم وازدهار في مختلف مجالات الحياة ومنها الرياضة. وعلى العكس من ذلك فأن النظم السياسية الشمولية والديكتاتورية تترك بصماتها السيئة على شكل قيود وتشدد تمنع الابداع وتولد التخلف لتلك المجتمعات وعلى جميع الاصعدة.

ودعونا نتحول الان من النظرية والمفاهيم الى الواقع والمصاديق ولنأخذ كرة القدم التي نعيش هذه الايام حُماها في المونديال كمثال للرياضة وكمصداق للنشاط الجماعي والفردي وارتباطها بشكل النظام السياسي والاقتصادي للدول والمجتمعات. فسوف نجد ان الدول ذات الانظمة الديمقراطية والتي تحكمها الليبرالية السياسية والاقتصادية حتى وان كانت دول فقيرة اقتصاديا نجدها مبدعة في ملاعب كرة القدم وفي بقية مجالات الحياة المتنوعة حيث تتمثل الليبرالية الرياضية فيها بفكرة الاحتراف والتي تقوم بدورها _اي فكرة الاحتراف_ على بعدين اقتصادي واجتماعي.

اما البعد الاجتماعي فيتجسد في الحرية الفردية في ممارسة الرياضة كهواية وكمهنة اي احتراف، وكحق من حقوق الانسان توفره الليبرالية السياسية التي كما ذكرنا تقوم على صيانة وتقديس الحرية الفردية وعدم تقيدها بفتاوى او بقوانين طوارئ او فرمانات ثورية تقتل الابداع. واما البعد الاقتصادي فيتجلى هو الاخر في تنافس الشركات والاندية الرياضة على شراء هذا اللاعب المبدع عند احترافه بصفقات تصل الى ملايين الدولارات حيث يجري التنافس الحر بين تلك الاندية وفقا لقواعد اقتصاد السوق الحر الذي توفره الليبرالية الافتصادية، بينما نجد في الدول التي تحكمها انظمة شمولية او راديكالية تقيَّيد ومنع لفكرة الاحتراف بدعوى انها تتضارب والمركزية او الاقتصاد الموجه الذي تؤمن به تلك الانظمة وان وجدت حالات احتراف في تلك الدول فهي نادرة وغير ذي شان يذكر.

ان الانظمة الشمولية تقتل الابداع ولذلك نجد في العرب والمسلمين الذين تتاح لهم فرصة العيش في الدول الديمقراطية حالات ابداعية كثيرة ماكان لها ان تتوفر لو بقوا في دولهم الاصلية ولعل في تجربة المنتخب العراقي في عهد النظام البائد ما يؤكد زعمنا هذا وكيف حرم النظام احتراف اللاعبين العراقيين رغم امتلاكهم لمواهب عظيمة بدعوى ان آيديولوجية البعث الذي يؤمن بالاشتراكية تتعارض والاحتراف، بل اكثر من ذلك قتلت الديكتاتورية ابداع الكرة العراقية يوم كان ابن الطاغية عدي الذي شغل منصب رئيس اللجنة الاولمبية_كما يشرف الان معظم ابناء الزعماء العرب او اقربائهم على حقل الرياضة بينما تشرف زوجاتهم على حقول الفن والثقافة والادب بالرغم من عدم امتلاكهم المؤهلات للتصدي لهذه الحقول المهمة_ يشرف بنفسه على معاقبة اللاعبين وتعذيبهم اشد العذاب وسجنهم عند الخسارة.

هذا المثال يمكن تعميمه على كل الانظمة الشمولية التي تزج الايديولوجية في الحقل الرياضي والنتيجة هو تخلف تلك الدول رياضيا رغم ان بعضها غنيةٌ اقتصاديا الا ان نظمها غير ليبرالية، وعلى العكس من ذلك فان الدول الليبرالية وان كانت فقيرة اقتصادياً نجدها مبدعة رياضياً ولعل في البرازيل التي يقوم اقتصادها على صادرات البُن وعلى السياحة نموذجاً لمثل هذه الدول حتى قدر المراقبون الثروة التي يمثلها المنتخب البرازيلي بمئات الملايين من الدولارات هو سعر اعضاءه من اللاعبين المحترفين ومن الكادر التدريبي والامر ذاته ينطبق على المنتخب الارجنتيني حيث الديمقراطية الليبرالية شقت طريقها لكرة القدم فتحولت الى ثروة اقتصادية جلبه الابداع الرياضي والتألق المستمر لمنتخبات تلك الدول وهذا هو معنى الليبرالية الرياضية التي يفتقر اليها المسلمون الذين لا يزالون أسارى العقلية المتشددة التي تحركهم بفتاويها التي ما انزل الله بها من سلطان ذات اليمين وذات الشمال وصدق ربنا القائل (ان الله لا يغير مابقوم حتى يغيروا ما بإنفسهم) وحتى لو غيرت الفرق العربية والاسلامية التي تلقت هزائم فادحة في المونديال كادرها التدريبي فانها سوف لن تعالج المشكلة الاصلية التي تعاني منها مجتمعاتها والتي تتمثل بغياب الليبرالية الرياضية التي هي جزء لا يتجزاء من الديمقراطية الليبرالية التي يجب ان تسود دولها لكي تتقدم للامام.

[email protected]