فنتازيا عربية

لقد ثبت علمياً انك اذا اردت مشاهدة اي فيلم عربي، او متابعة اي مسلسل عربي فعليك اولاً وقبل المشاهدة، المرور على طبيب القلب للاطمئنان على سلامة قلبك، ثم تعرج على طبيب الأعصاب للتأكد من قوة تحمل اعصابك. اما حكاية ان هذا ثبت علمياً، فلا أعرف من الذي اثبته ومتى واين ؟ لكنها فقط مجاراة للموضة العربية التي سادت، حيث ان كل من شاء يُثبت ما يشاء ويؤكد ما يشاء وينسبه للعلم وهو مطمئن بأن الحكاية (حاتفوت) من دون ان يسأله احد عن ادلة او براهين.
اهمية مرورك على هؤلاء الاطباء قبل التورط بمشاهدة اي فيلم او مسلسل هو للتأكد من سلامة قلبك حتى لا تصاب بأزمة قلبية وانت تُشاهد، وايضاً التأكُد من قوة اعصابك حتى لا تُصاب بإنهيار عصبي من المُشاهدة، وهذا ما سيحدث بالقطع إذا لم تكن اعصابك فولازية وقلبك من حديد. فمع الفيلم او المسلسل العربي، سوف تعيش ظروفاً قاسية تتطلب منك الصبر وقوة التحمل، حيث ستبدأ، ومن اول الفيلم أو المسلسل،التعقيدات والتصعيبات والمبالغات اللامنطقية واللاعقلية الت ترفعك الى قمة الحزن احياناً والنكد احياناً اخرى والغضب احياناً ثالثة، واليأس في كل الاحيان من وجود حلول لهذه التعقيدات.وتستمر العُقد التى لا تزيد إلا تعقيدا وتجرُّ عقداً أُخرى حتى تتخيَّل انها لا يمكن ان يحلها فيلم او مسلسل وانما تحتاج الى لجان مجلس الامن لحلها. هذه العقد تستمر معك الى ماقبل نهاية الفيلم بثلاث دقائق او حتى الحلقة (29،99) اذا كان المسلسل رمضانياً، (مع ملاحظة انه، وبعد التغييرات التي حدثت، والديمقراطيات التي اصبحت تنهال علينا كما المطر، فان الرقم السابق قد يتحول الى 29،51 فقط). واخيراَ وفي آخر ثلاث دقائق من الفيلم او آخر دقائق من الحلقة الخيرة من المسلسل تجد ان كل تلك العقد قد تم حلها في لمح البصر، وكل ذلك النسيج الاخطبوطي قد انهار وتم القبض على الحرامي او جاء الماذون لعقد الزواج وصارت الامور سمن على عسل بينما تكون انت فاغراً فاهك جالساً كما الاهبل مصدقاً كل هذا التلفيق.
ما سبق هو ما كان يحدث في الافلام والمسلسلات العربية، اما الآن فإن ما يحدث على ارض الواقع هو شئ مماثل لذلك، إذ اننا صحونا فجأة على ان هناك عُقداً في حياتنا، وفجأة ايضاً صحونا على ان هذه العُقد يجب مواجهتها وحلها (كنا في الواقع نطنشها في احسن الفروض، او نسفهها وننكرها في اسوأها، هذا اذا لم نكن نزيدها تعقيداً كما في الافلام). ألآن فجأة اصبح كثيرـ مما كان النقاش فيه مُحرماًـ خاضعاً للنقاش والمداولة... وتحول الكثير من الاصوات التي كانت زاعقة وحادة وباترة ومالكة لكل الحقيقة، الى اصوات تتلفت يميناً وشمالاً قبل ان تزعق... الكثيرمن التابوهات التي لم يكن الاقتراب منها ممكناً اصبحت خاضعة للاقتراب والنقاش والمؤاخذة... الكثير من الاشخاص الذين كانوا اصناماً لا يمكن الاقتراب منها اصبحوا عُرضة للمواجهة والمسائلة... بعض الذين كانوا ينهروننا بإستمرار وجدوا من يقف لهم وينهرهم... صرنا نرى ان اؤلئك الذين هتفوا وزأروا على مدار السنين من دون ان يعترضهم احد، اصبحوا يخضعون للمواجهة والمسائلة والمناكفة... البعض بدأت تظهر عليهم علامات الرعب والتوجس والدهشة، ذلك انهم تعودوا على مدار السنين، ان يكونوا هم الذين، يتحدثون ويأمرون ويحددون، وما على الآخرين إلا السمع والطاعة والانصياع الاعمى. هناك متلاشيات صارت تظهر على السطح، من امثال الديمقراطية والمشاركة والشفافية وحقوق المرأة وحرية التفكير والكلام، وبالعكس هناك رواسخ وتابوهات صارت تتلاشى وتتحول من خطوط حمراء الى ألوان اخرى !!
الاعتراف بوجود خطاء هو الخطوة الاولى والمهمة في طريق اصلاحه، وقد كانت مشكلتنا الكبرى في العالم العربي هي اننا ننكر اي مثلبة ونخفيها او نتغابى عنها، (وكلمة نتغابى هي جمع اجماع متحد تعني، غياب،غيبوبة،غباء و واخيراً غيب) وقد ثبت هذا علمياً،وما حدش يسأل!!
كل هذا الزخم الذي بدأ يظهر فجأة، كان يُمكن ان يظهر منذ زمن بعيد، وكل الاخطاء والخطايا التي ارتكبناها كان يمكن ان لا تكون لو اننا سمحنا لمن كانوا خارج سربنا بالحديث واستمعنا لهم، ولكن بالعكس، كل الذين اشاروا الى المثالب ورفعوا اصبع التنبيه وطالبوا بالتغيير، سفَّهناهم واتهمناهم واسكتناهم، ومن لم يسكت دهسه قطار ثوابتنا، وركائزنا، وخصوصياتنا، ومواقفنا الثابتة تجاه الامبريالية والصهيونية والاستعمار، وارسله الى ما وراء الشمس في القبور او امامها في السجون او التشريد، ومن وجد فرصة ترك سربنا وهرب الى الخارج. ألآن يبدو ان هناك محاولات لإصلاح قطارنا الصدئ لكي يتحرك الى الامام نحو التقدم والإصلاح، هذه المحاولات تبدو جادة في بعض الاحوال، كما هو الحال في فلسطين والسودان والمملكة العربية السعودية، وملتبسة في بعضها، كما هو الحال في العراق ولبنان، ومتعثرة بعض الشئ كما هو الحال في الجزائر ومصر، أومترددة كما هو الحال في سوريا. ولكن وفي كل الاحوال فقد بدأت المسيرة و ونرجو ونتمنى ان تستمر حتى المأذون او القبض على الحرامي !! ولا يهم ان يسير ذلك القطار بقاطرة بخارية مُرممة من مخازننا او بقاطرة جديدة مستوردة !! المهم هو بداية المسير، ومشوار العشرة ميل يبدأ بخطوة كما يُقال (طبعاً من العبث والجنون ان نتحدث عن الف ميل الآن.)

(كاتب سوداني)